زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
عليكم بسياسة زياد بن أبيه
كان زياد بن أبيه واليا على البصرة في عهد معاوية بن ابي سفيان، وفيها ألقى خطبته «البتراء»، وسميت كذلك لأنه لم يبدأها «بسم الله»، وقد أعجبت بتلك الخطبة -برغم ما فيها من وعيد، بدرجة أنني حفظت معظمها غيبا، وأعجبني على نحو خاص قوله: إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله: لين في غير ضعف، وشدة في غير عنف. وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالمولى، والمقيم بالظاعن، والمقبل بالمدبر، والمطيع بالعاصي، والصحيح منكم في نفسه بالسقيم حتى يلقي الرجل منكم أخاه فيقول: انج سعد فقد هلك سعيد، أو تستقيم لي قناتكم.
وسياستي مع عيالي كانت بألّا أكون ليِّنا فأُعْصَر، ولا يابسا فأُكْسَر، وفي تقديري فمن الضروري ان يعرف الأطفال متى نقول نحن أولياء أمورهم «لا»، ولمن نقولها، ولماذا نقولها، وفي أي الحالات لا نقولها. نعم فليس من حسن التربية ان تكون كلمة «لا» حاضرة على لسان الأب او الأم على الدوام وطوال الدوام المنزلي، كلما طلب العيال أمرا (أريد أن ألعب مع حسون.. لا... أريد مشاهدة مباراة.. لا.. أريد سندويتش بيرغر.. لا) أعني انه لا بد من الموازنة بين التدليل والتدليع، والجفاء والقسوة ولو بالكلام «الناشف». والمصيبة الكبرى هي ان ينقسم الأب والأم الى حزبين أحدهما يلعب دور الحنين الرؤوم، و«يفوِّت» للعيال أخطاءهم، مهما كانت فداحتها بينما يميل الآخر إلى الحزم. ومن غرائب الأمور أن الآباء عادة أشد حزما مع الأولاد وأكثر رقة مع بناتهم، والعكس عند الأمهات اللواتي يكون عادة أكثر تدليلا للذكور من عيالهم.
عندما بدأت التدخين اكتشفت أمي الأمر فقالت: أبوك سيقتلك لو عرف بالأمر. لازم تعمل حسابك! وعملت حسابي وعلقت في ضباب التبغ قرابة عشرين سنة أصيبت خلالها رئتي وجيبي بالثقوب. ولو ردعتني وزجرتني أو أبلغت والدي لربما ما واصلت التدخين. والأطفال أذكياء: يا أحلى ماما.. تعرفين أن أبوي صعب ومو حنين مثلك.. كلميه عشان يخليني أبيت الليلة عند صديقتي سونيا.. بس خليها كأن الاقتراح منك أنت مو مني أنا. وتعتقد الأم بذلك ان حب بنتها لها أكثر من حبها لأبيها، ولا يخطر ببالها انها تستعبط، بل وربما تحترم الأب أكثر لأنها تعرف أنه صارم حيث ينبغي ان يكون صارما وعطوفا وودودا في معظم الأحوال. هذا الوضع قائم في غالبية بيوتنا لأن الأب غائب عن حياة البيت بسبب «مشاغل الدنيا وأكل العيش». ويترك مسؤولية رعاية العيال للأم.. والأم قد تكون عاملة مثله، ووقتها موزع بين البيت والعمل ومن حقها ان تطلب الراحة والهدوء بعيدا عن دوشة العيال بعض الوقت، وقد تكون متفرغة لشؤون البيت ولكن كثرة الأعباء تجعلها تلجأ الى طلب راحة البال بالاستجابة لكل ما يطلبه العيال. أي أنها تشتري راحة بالها «مؤقتا» بتلبية طلبات «المستمعين»، ويفاقم الوضع ان الأسرة الممتدة بدأت تتآكل باسم مشاغل الحياة. فيما مضى كان الطفل يعمل حسابا للعم وابن الخال والعمة وبنت الخال وزوج أخته الذي من حقه أن يزجره. كل ذلك انتهى أو كاد، وإذا تعرض طفل للزجر من قبل قريب غير والديه قد لا يتردد في القول له: انت لست أبي/أمي وليس من حقك ان تخاطبني بهذه الطريقة. بل يقول الأطفال ذلك الكلام لإخوتهم الكبار: أنت مو أبوي.. خلّك في حالك.. وأحيانا قد يحتج الطفل على قرار الأم/الأب ويطالب بتفسير وتبرير، شخصيا لا أتردد في الرد على الاحتجاج بأنني اتخذت القرار لأنني أملك الصلاحية لذلك بحكم انني أب وبأنني لا أدخل في مفاوضات مع الإرهابيين. العيال يلجأون إلى أساليب الإرهابيين الذين يحتجزون رهائن، ومنها الابتزاز: يعني ما تحبوني؟ لا، بل نحبك ونرفض تلبية جميع رغباتك لأننا نحبك. ولأن الطفل لبيب ويفهم بالإشارة، فيجب على الدوام ان يقترن الزجر والنهر ورفض الطلبات بأدلة ملموسة (وليس مجرد كلام) على أنه محبوب، ليس بالانهزام أمام ابتزازه و«حركاته القرعة»، ولكن بمنحه الإحساس بأن هناك أشياء كثيرة يحبها مباحة ومتاحة. وفي تقديري، فإن من أسوأ خصال الأبوة والأمومة مواصلة تمثيل دور الزعلان لساعات أو أيام. العفو والمسامحة أحيانا عقوبة تأتي بنتائج أفضل من التكشير والصراخ المتواصل.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك