زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
عن ألماني ليس غنيا بل «غبيا»
عندما كنت مقيما في لندن في تسعينيات القرن الماضي، سعدت باستقبال واستضافة زميل دراسة جاء المدينة زائرا سائحا، في بيتي، وكان قد دخل مجال التجارة وحقق فيه نجاحا طيبا، وعندما هم بالمغادرة سألني إن كان ممكنا أن أصحبه في زيارة لـ«هارودز»، فقلت له: لا مانع ولكن اخطرني بموعد الزيارة قبل وقت كاف، حتى لا يتعارض مع جدول عملي، ثم سألته: كم المسافة من لندن إلى هارودز؟ فكان ردُّه أن سؤالي هذا «غريب». المهم اتضح له أنني كنت أحسب أن هارودز مدينة «بحالها»، وشرح لي أنها متجر ضخم في قلب لندن، معروف بعرض سلع «على مستوى»، وذهبت معه إلى ذلك المتجر، ورأيت قرب المدخل قلم رصاص سعره 8 جنيهات إسترلينيه، وقلت في سري: وكم يكون سعر المسدس هنا؟ وخرجت من المتجر ولم أعد حتى الآن.
كتبت كثيرا عن الإنفاق البذخي على الأثاث والملابس، مستنكرا بصفة خاصة ان ينفق من لا حيلة لهم في الحياة سوى الراتب الشهري، ما يعادل راتب شهر كامل على بلوزة أو جاكيت. الغريب في الأمر أن الأغنياء غير ميالين للإنفاق التفاخري، ربما لأن عيونهم «مليانة»، وربما لأنهم يعرفون قيمة المال لأنهم – أو معظمهم – عانى كثيرا حتى جمع ثروته، وخير مثال على ذلك الملياردير السعودي الراجحي، الذي لديه عشرات الآلاف من الموظفين، وكان يمر بشركاته فيحسبه الناس «طالب وظيفة»، لبساطة هندامه، فقد كان شديد النفور من العنطزة والفخفخة، وكان أبعد الناس عن البخل بدليل أنه أوقف مليارات الدولارات لصالح المشاريع الخيرية، ومن بينها واحدة من أكبر شركات الدواجن في العالم العربي.
وما حملني على الخوض في هذا الموضوع، هو خبر قرأه الناس في كل أنحاء العالم عن شركة نمساوية أنتجت بنطلونا واحدا وباعته. البنطلون غير عادي، ومصنوع من جلود الأغنام والغزلان والخنازير. وبالمناسبة فإن النفور من الخنزير أمر عام، ولا يقتصر علينا نحن كوننا نعتبره نجسا. أقذع شتيمة توجه إليك بالإنجليزية، هي وصفك بأنك خنزير لأنها تعني “قذر ونتن ونهم وشره ومعفِّن». هناك أمر آخر يميز هذا البنطلون وجعل شركة شهيرة تكتفي بإنتاج عينة/ قطعة واحدة منه، ألا وهو أن به أكثر من 160 قطعة ماس (ألماظ) مثبتة بقطع وخيوط ذهبية. ومن ثم فليس مستغربا ان يكون سعر هذا البنطلون 166 ألف دولار.. وتذكرت كيف أنني تباهيت بامتلاكي لـ14 بدلة كاملة (فُل سوت)، ثم تذكرت أن قيمتها مجتمعة كانت نحو خمسمائة (500) دولار، لأنني اشتريتها من بلد كانت الاشتراكية فيه لم تلفظ أنفاسها بعد بالكامل (تشيكوسلوفاكيا). ووجد البنطلون من يشتريه، وهو على وجه التحديد ألماني يقيم في إمارة دبي.
لو كنت مقيما في دبي لتعلمت كذا جملة شتيمة بالألمانية، ثم بحثت عن هذا الألماني لأطلقها في وجهه: شيخن بيخن أخ توف (بالمناسبة، هذه الجملة مفبركة ولكن عموما لا يمكنك ان تنطق بجملة بالألمانية دون ان يتطاير اللعاب من فمك في وجه من تخاطبه)، ليس ذلك لأنني «حاقد» لأنه أنفق على بنطلون واحد ما يعادل قيمة سيارتي وأثاث بيتي وملابس جميع أفراد أسرتي الممتدة منذ عهد كافور، ونظاراتي الـ11 (لا أتخلص من نظاراتي الطبية القديمة خوفا من الظروف التي قد تضطرني الى استخدام واحدة منهن قديمة. ورغم هذا يقول طبيب العيون إنني أعاني من قصر النظر. احتفاظي بالنظارات الأثرية دليل على بعد النظر.. شوفوا حال السوق الآن وانظروا كيف صار سعر سندويتش الفول اليوم أعلى من سعر سندويتش الشاورما قبل سنة) وأكرر ما سبق أن قلته عن وجود نقطة صغيرة تفصل بين الغني والغبي. حركة كدا وللا كدا من إصبعك قد تجعل الغني «غبيا»! والألماني هذا بالتأكيد ليس غنيا وإلا لما كان يعمل بعيدا عن وطنه، في دبي، بل هو ذو نزعات استعراضية. إذن فإنني لا أظلمه لو وضعت النقطة «تحت» بدلا من «فوق» في الحرف الذي يلي الغين في «غني».. ولو كنت مقيما في دبي لتحرشت به كما يفعل النشالون وانتزعت كم فص ألماس من بنطلونه الخنزيري لأصبح غنيا بالنون وليس بالبون كما قال سرحان عبدالبصير!
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك