زاوية غائمة
جعفـــــــر عبــــــــاس
jafasid09@hotmail.com
هذا أدبي وذاك علمي علمك!!
للمرة العاشرة بعد الخمسين أقول إن مرد اهتمامي بأمور التربية والتعليم هي أنني اب دخل عياله المدارس والجامعات، وتابع مسيرتهم الأكاديمية سنين عددا، كما أنني عملت في مجال تدريس اللغة الإنجليزية، بعد أن نلت تدريبا لا بأس به لإعدادي للمهنة، وأعترف بأنني كنت مدرسا متمردا على المناهج، فعملا بما تعلمته في الجامعة، بأن قواعد اللغة الإنجليزية منفِّرة إذا جاءت في شكل «حصة» قائمة بذاتها، وأنه من الأفضل أن يستقي الطالب القواعد من نصوص تتسم بـ«الجودة»، عمدت إلى عدم تدريس منهج قواعد النحو للغة الإنجليزية كما حددتها وزارة التربية، ومنح الطلاب جرعات خفيفة منها في سياق قراءة القطع النثرية والشعرية.
بوجه عام فالنظام التعليمي العربي مصاب بتصلب العضلات والشرايين، لأنه ظل جامدا ولا يمارس التمارين التي تنشط العضلات والدورة الدموية، والتي تؤدي بالتالي إلى «تجديد الشباب»، منذ العصر الأموي، ومنذ عقود صار طلاب المرحلة الثانوية يقسمون إلى فسطاطين: علمي وأدبي، وبينهما برزخ لا يسمح لطالب اجتيازه. أنت في المساق العلمي؟ هناك مواد ممنوع عليك دراستها. أنت «أدبي»؟ خلِّ عندك أدبا واحترم نفسك وابتعد عن الفيزياء والكيمياء والفاصولياء! يعني ما شاء الله على طلابنا، نابهون ونابغون بحيث إنهم «يتخصصون» في مواد معينة قبل أن يدخلوا الجامعات. ما هو أخطر من التقسيم العبثي للطلاب إلى علمي وأدبي، هو أن مَن يختارون المساق العلمي يفعلون ذلك على أمل دراسة مواد محددة في الجامعة: طب/ هندسة/ صيدلة/ أسنان. من النادر جدا أن تجد طالبا عربيا يقرر أنه يريد -بالتحديد- الحصول على بكالوريوس في الكيمياء أو الفيزياء أو الرياضيات أو الأحياء. والسبب بديهي، وهو أنه لعدم وجود بيئة علمية في بلداننا، فإن من يدرسون إحدى تلك المواد الأربع يعرفون أن فرصهم في الحصول على وظائف خارج سلك التدريس شبه معدومة، والتدريس، وفي جميع الدول العربية مهنة غير جاذبة بسبب بؤس شروط خدمة المعلمين وتعرضهم للبهدلة وعدم الاستقرار، فمع نهاية كل عام دراسي تبدأ الإجازات الصيفية الطويلة، التي يتمتع خلالها الجميع بالترويح عن النفس والفرفشة. إلا المعلم، يظل مشدود الأعصاب طوال الإجازة، ولا يستطيع حتى أن يتخذ قرارا في أمر حياتي بسيط مثل تغيير المسكن، لأن كشوفات تنقلات المعلمين ربما تقضي بأن ينتقل من مدرسته الحالية إلى أخرى في القطب الشمالي من البلاد، وربما يسقط اسمه من تلك الكشوفات كليا مما يعني أنه صار فاقدا تربويا أي محالا إلى الأرشيف المسمى التقاعد بغض النظر عن سنوات العمر.
بحسب تقديرات اتحاد الصناعات البريطاني فإن بريطانيا ستحتاج خلال السنوات العشر المقبلة إلى مليونين ونصف المليون خريج جامعي جديد يحملون درجات علمية في الرياضيات والفيزياء والكيمياء والتكنولوجيا، وبالتالي فقد قرر الاتحاد تخصيص صندوق لمنح مكافأة قدرها 2000 دولار سنويا لكل من يدرس تلك المواد في الجامعة. لاحظ أن اتحاد الصناعات يتحدث عن خريج جامعي «جديد». وليس مثل جماعتنا يغلقون الأبواب في وجه الخريج الجديد لأنه «ما عنده خبرة». ننسى أن خريج الهندسة هذا العام درس مواد لم يدرسها المهندس الذي ترك الجامعة قبل 15 سنة. وحامل بكالوريوس اللغة العربية لعام 2007 قد يعرف عن الكمبيوتر أكثر مما يعرفه استشاري أمراض النساء والولادة الذي رصيده من الخبرة العملية 30 سنة مثلا، ولا نتيح لحامل بكالوريوس الكيمياء العمل في مختبر طبي أو جنائي أو نفطي أو في محطة مياه مع أنه يستطيع أن يثبت وجوده فيها خلال 6 أشهر. بس على إيه؟ نجيب خبير من بره ونعطيه 15 آلاف دولار في الشهر.. يا بلاش، والشاهد في كل هذا يا جماعة الخير إن من يتكفل بالطلاب في تلك التخصصات المعينة في بريطانيا هو القطاع الخاص، وليس الحكومة، بينما القطاع الخاص عندنا متخصص في نهش لحم الحكومة والمواطن، ولم نسمع بثري عربي يخصص منحا للدارسين في الجامعات أو ينشئ «كرسيا» لدراسة مادة معينة في جامعة ما، ولكنني أعرف الكثير من الأثرياء العرب الذي قدموا ملايين متلتلة لجامعات في بريطانيا والولايات المتحدة. هل هي حكاية مغني الحي الذي لا يُطرِب؟
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك