العدد : ١٧٠٦٨ - الأحد ١٥ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٤ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٦٨ - الأحد ١٥ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٤ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

حفيد عنترة في المعمعة

تناولت‭ ‬في‭ ‬مقالي‭ ‬بالأمس‭ ‬جانبا‭ ‬من‭ ‬حالة‭ ‬الجزع‭ ‬والفزع‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تنتابني‭ ‬خلال‭ ‬إقامتي‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬كلما‭ ‬تأخر‭ ‬أحد‭ ‬العيال‭ ‬عن‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬البيت‭ ‬من‭ ‬المدرسة‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬المعتاد،‭ ‬ذلك‭ ‬ان‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬بيتنا‭ ‬كان‭ ‬يتطلب‭ ‬المرور‭ ‬بجوار‭ ‬حانة‭ ‬تفز‭ ‬أعدادا‭ ‬من‭ ‬السكارى‭ ‬إلى‭ ‬شوارع‭ ‬الحي،‭ ‬وإلى‭ ‬جانب‭ ‬هذا‭ ‬فتخيل‭ ‬حال‭ ‬أفراد‭ ‬عائلة‭ ‬سمر‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬فيه‭ ‬عنصريون‭ ‬يتحرشون‭ ‬بك‭ ‬بسبب‭ ‬لونك‭ ‬أو‭ ‬دينك،‭ ‬فما‭ ‬بالك‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬المستهدف‭ ‬عربيا‭ ‬إفريقيا‭ ‬ومسلما؟

أول‭ ‬زيارة‭ ‬لي‭ ‬للندن‭ ‬كانت‭ ‬عام‭ ‬1976‭ ‬لعام‭ ‬دراسي‭ ‬واحد،‭ ‬وكنت‭ ‬وقتها‭ ‬كنت‭ ‬خالي‭ ‬طرف‭: ‬لا‭ ‬زوجة‭ ‬ولا‭ ‬عيال‭. ‬وكانت‭ ‬لندن‭ ‬‮«‬أمان‮»‬‭ ‬نسبيا،‭ ‬بمعنى‭ ‬أن‭ ‬جرائم‭ ‬العنف‭ ‬العشوائي‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬معروفة‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭. ‬شهدت‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬مذبحة‭ ‬سويتو‭ ‬في‭ ‬جوهانسبيرغ‭ ‬في‭ ‬جنوب‭ ‬إفريقيا‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬انفراد‭ ‬البيض‭ ‬العنصريين‭ ‬بالسلطة‭: ‬السود‭ ‬لا‭ ‬يركبون‭ ‬الباصات‭ ‬المخصصة‭ ‬للبيض،‭ ‬وعلى‭ ‬الشواطئ‭ ‬لافتات‭: ‬ممنوع‭ ‬دخول‭ ‬الكلاب‭ ‬والسود‭. ‬وكانت‭ ‬في‭ ‬لندن‭ ‬حركات‭ ‬نشطة‭ ‬ضد‭ ‬النظام‭ ‬العنصري‭ ‬في‭ ‬جنوب‭ ‬إفريقيا،‭ ‬وانغمست‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الحركات‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬معظمها‭ ‬ينطلق‭ ‬من‭ ‬أحياء‭ ‬السود‭ ‬في‭ ‬جنوب‭ ‬لندن‭: ‬بريكستون‭ ‬وبلام‭ ‬وتوتنغ‭ ‬بك‭ ‬وما‭ ‬جاورها‭. ‬وذات‭ ‬مرة‭ ‬كلفوني‭ ‬بإعداد‭ ‬فيلم‭ ‬قصير‭ ‬عن‭ ‬عادات‭ ‬الشعوب‭ ‬في‭ ‬تسريح‭/‬تصفيف‭ ‬الشعر،‭ ‬وتوجهت‭ ‬إلى‭ ‬مناطق‭ ‬‮«‬ربعي‮»‬‭ ‬السود،‭ ‬وكان‭ ‬الأستاذ‭ ‬الذي‭ ‬يشرف‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬المشروع‭ ‬خواجة‭ ‬شديد‭ ‬البياض‭ ‬ويهوديا‭ (‬يعني‭ ‬أخوكم‭ ‬من‭ ‬أنصار‭ ‬التطبيع‭ ‬من‭ ‬زمان‭!!) ‬وأصيب‭ ‬الرجل‭ ‬بحالة‭ ‬من‭ ‬الفزع‭ ‬عندما‭ ‬عرف‭ ‬أنني‭ ‬ذاهب‭ ‬الى‭ ‬الخلايا‭ ‬الإجرامية‭. ‬ففي‭ ‬معظم‭ ‬الدول‭ ‬الغربية‭: ‬أنت‭ ‬أسود؟‭ ‬إذاً‭ ‬أنت‭ ‬مجرم‭ ‬أو‭ ‬مشروع‭ ‬مجرم‭ (‬انقلبت‭ ‬الآية‭ ‬الآن‭: ‬أنت‭ ‬مسلم؟‭ ‬إذاً‭ ‬أنت‭ ‬عضو‭ ‬في‭ ‬تنظيم‭ ‬إرهابي‭ ‬أو‭ ‬مرشح‭ ‬لعضويته‭).. ‬قلت‭ ‬له‭: ‬ولا‭ ‬يهمك‭ ‬معك‭ ‬كفيل‭ ‬أسود‭ ‬‮«‬أصلي‮»‬‭ ‬وليس‭ ‬أسود‭ ‬مستوردا‭ ‬مثل‭ ‬سود‭ ‬بريطانيا‭.. ‬وعرجت‭ ‬بأستاذي‭ ‬اليهودي‭ ‬الى‭ ‬دار‭ ‬اتحاد‭ ‬مسلمي‭ ‬جنوب‭ ‬افريقيا،‭ ‬ولأنني‭ ‬‮«‬معرفة‮»‬‭ ‬فقد‭ ‬استقبلوني‭ ‬بالأحضان،‭ ‬فقدمت‭ ‬لهم‭ ‬استاذي‭ ‬باسمه،‭ ‬ثم‭ ‬أضفت‭: ‬بالمناسبة‭ ‬الرجل‭ ‬هذا‭ ‬يهودي‭. ‬فقد‭ ‬الرجل‭ ‬توازنه‭ ‬واعتبر‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬الهالكين‭: ‬هأنذا‭ ‬أمام‭ ‬وحوش‭ ‬سود‭ ‬ومسلمين‭ ‬‮«‬بعد‮»‬،‭ ‬وبينهم‭ ‬وبين‭ ‬البيض‭ ‬ثار‭ ‬في‭ ‬بلادهم‭. ‬الحقني‭ ‬يا‭ ‬رب‭ ‬موسى‭. ‬فوجئ‭ ‬الرجل‭ ‬بالجميع‭ ‬يتلقونه‭ ‬بالأحضان‭ ‬ويداعبونه‭: ‬طالما‭ ‬لست‭ ‬إسرائيليا‭. ‬نو‭ ‬بروبليم‭.. ‬ليس‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬مشكلة‭.. ‬وصار‭ ‬لاحقا‭ ‬مثلي‭ ‬من‭ ‬رواد‭ ‬تلك‭ ‬الدار‭ ‬المنتظمين،‭ ‬واصطحب‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬أصدقاءه‭ ‬البيض‭ ‬إلى‭ ‬أحياء‭ ‬السود‭ ‬في‭ ‬جنوب‭ ‬لندن‭ ‬ليتأكدوا‭ ‬بأنفسهم‭ ‬من‭ ‬خطأ‭ ‬تنميط‭ ‬السود‭ ‬كمجرمين‭ ‬بالسليقة‭.‬

هذا‭ ‬كله‭ ‬في‭ ‬‮«‬خبر‭ ‬كان‮»‬‭. ‬في‭ ‬لندن‭ ‬اليوم‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أحس‭ ‬بالأمان‭ ‬وسط‭ ‬السود،‭ ‬ولا‭ ‬البيض‭ ‬ولا‭ ‬الحمر‭ ‬ولا‭ ‬الصفر‭. ‬قد‭ ‬تتعرض‭ ‬للاعتداء‭ ‬فقط‭ ‬لأن‭ ‬شكلك‭ ‬لا‭ ‬يعجب‭ ‬شخصا‭ ‬ما‭. ‬أو‭ ‬لأن‭ ‬موبايلك‭ ‬حلو‭.. ‬في‭ ‬ساعة‭ ‬متأخرة‭ ‬من‭ ‬الليل‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬قطار‭ ‬الأنفاق‭ ‬ودخل‭ ‬علينا‭ ‬شاب‭ ‬أسود‭ ‬سكران‭ ‬طينة‭ ‬وتحرش‭ ‬بفتاة‭ ‬سوداء‭ ‬فنهضت‭ ‬من‭ ‬مكانها‭ ‬وجلست‭ ‬بقربي،‭ ‬إما‭ ‬لأنها‭ ‬حسبت‭ ‬أنني‭ ‬حمش،‭ ‬وإما‭ ‬لأنها‭ ‬حسبت‭ ‬أن‭ ‬السكران‭ ‬الاسود‭ ‬قد‭ ‬‮«‬يختشي‭ ‬على‭ ‬دمه‮»‬‭ ‬ولن‭ ‬يتحرش‭ ‬بها‭ ‬لأنه‭ ‬قد‭ ‬يعتقد‭ ‬ان‭ ‬صلة‭ ‬ما‭ ‬تربطها‭ ‬بي‭.. ‬وتوجه‭ ‬الرجل‭ ‬نحونا‭... ‬كنت‭ ‬أرتعش‭ ‬ولكن‭ ‬الله‭ ‬ألهمني‭ ‬‮«‬الكلمة‭ ‬الطيبة‮»‬‭ ‬فطلبت‭ ‬من‭ ‬البنت‭ ‬أن‭ ‬تخلي‭ ‬المقعد‭ ‬الملاصق‭ ‬لي‭ ‬ودعوته‭ ‬للجلوس‭ ‬عليه،‭ ‬وشرعت‭ ‬أتكلم‭ ‬معه‭ ‬كلاما‭ ‬غير‭ ‬متجانس،‭ ‬ونسي‭ ‬عدوانيته،‭ ‬وبعد‭ ‬قليل‭ ‬وضع‭ ‬رأسه‭ ‬على‭ ‬كتفي‭ ‬ونام‭.. ‬فانسحبت‭ ‬بهدوء‭ ‬ونزلت‭ ‬في‭ ‬أقرب‭ ‬محطة‭ ‬ونزلت‭ ‬معي‭ ‬الفتاة‭.. ‬عرضت‭ ‬عليها‭ ‬ان‭ ‬تستأجر‭ ‬سيارة‭ ‬لتوصلها‭ ‬إلى‭ ‬بيتها‭ ‬ولكنها‭ ‬كانت‭ ‬مرعوبة‭ ‬وطلبت‭ ‬مني‭ ‬إما‭ ‬أن‭ ‬أوصلها‭ ‬إلى‭ ‬بيتي‭ ‬حتى‭ ‬يأتي‭ ‬أهلها‭ ‬ويأخذونها‭ (‬وتأخذ‭ ‬أم‭ ‬الجعافر‭ ‬بتلابيبي‭) ‬وإما‭ ‬أن‭ ‬اصطحبها‭ ‬في‭ ‬السيارة‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬أهلها‭. ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬فعلته‭. ‬كان‭ ‬لابد‭ ‬أن‭ ‬أثبت‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬سلالة‭ ‬عنترة‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬عندها‭ ‬بقية‭ ‬من‭ ‬نخوة‭ ‬وأصرت‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أنتظر‭ ‬داخل‭ ‬السيارة‭ ‬حتى‭ ‬أتى‭ ‬أهلها‭ ‬ليحيوا‭ ‬البطل‭ ‬الذي‭ ‬أنقذ‭ ‬بنتهم‭ ‬من‭ ‬الوحش‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا