العدد : ١٧٠٦٩ - الاثنين ١٦ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٦ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٦٩ - الاثنين ١٦ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٦ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

ما للتدريس وعليه

قلتها‭ ‬مرارا‭ ‬وسأظل‭ ‬أقولها‭ ‬طالما‭ ‬لي‭ ‬لسان‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬النطق‭: ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬في‭ ‬قطاع‭ ‬الخدمة‭ ‬المدنية‭ ‬مهنة‭ ‬تضاهي‭ ‬التدريس‭ ‬في‭ ‬الأهمية،‭ ‬فمن‭ ‬تحت‭ ‬عباءة‭ ‬التدريس‭ ‬يأتي‭ ‬الطب‭ ‬والقضاء‭ ‬وسائر‭ ‬المهن،‭ ‬ولكن‭ ‬ورغم‭ ‬تأكيدي‭ ‬المتكرر‭ ‬بأنني‭ ‬اعتبر‭ ‬السنوات‭ ‬القليلة‭ ‬التي‭ ‬أمضيتها‭ ‬في‭ ‬التدريس‭ ‬أخصب‭ ‬سنوات‭ ‬عمري‭ ‬المهني،‭ ‬ورغم‭ ‬أنني‭ ‬دخلت‭ ‬مجال‭ ‬التدريس‭ ‬عن‭ ‬رغبة‭ ‬وليس‭ ‬لـ‮«‬قلة‭ ‬الحيلة‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬لم‭ ‬أصبح‭ ‬مدرسا‭ ‬لعدم‭ ‬وجود‭ ‬المهنة‭ ‬البديلة،‭ ‬إلا‭ ‬أنني‭ ‬لست‭ ‬نادما‭ ‬على‭ ‬هجر‭ ‬تلك‭ ‬المهنة‭ ‬خاصة‭ ‬وأنني‭ ‬رأيت‭ ‬أحوال‭ ‬المدرسين‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬البلدان‭ ‬العربية‭ ‬وصرت‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة،‭ ‬وكلما‭ ‬التقيت‭ ‬بمعلم‭ ‬صبية‭ ‬أقول‭ ‬له‭: ‬الله‭ ‬يقويك‭. ‬شدة‭ ‬وتزول‭ ‬إن‭ ‬شاء‭ ‬الله‭.‬

ثم‭ ‬عثرت‭ ‬على‭ ‬قصيدة‭ ‬كتبها‭ ‬مدرس‭ ‬ظل‭ ‬صامدا‭ ‬في‭ ‬المهنة‭ ‬حتى‭ ‬نهاية‭ ‬أمد‭ ‬صلاحيته‭ ‬وظيفيا،‭ ‬وحمدت‭ ‬الله‭ ‬على‭ ‬نجاتي‭ ‬بجلدي‭ ‬من‭ ‬التدريس‭. ‬اقرأوا‭ ‬ما‭ ‬قاله‭ ‬صاحبنا‭ ‬شعرا،‭ ‬وهو‭ ‬يقف‭ ‬على‭ ‬أطلال‭ ‬جسمه‭ ‬وقواه‭ ‬العقلية‭:‬

بِساحِ‭ ‬العلم‭ ‬أفنينا‭ ‬الشبابا‭ / ‬وأوجفْنا‭ ‬الأعنّة‭ ‬و‭ ‬الرِّكابا‭ / ‬فما‭ ‬أبقى‭ ‬لنا‭ ‬الطلابُ‭ ‬عقلاً‭ / ‬ولا‭ ‬تركَ‭ ‬الدوامُ‭ ‬لنا‭ ‬صوابا‭ / ‬قطعنا‭ ‬العمْر‭ ‬من‭ ‬صفٍ‭ ‬لصفٍ‭ / ‬وجاهدنا‭ ‬المتاعبَ‭ ‬والصعابا‭ / ‬بني‭ ‬قومي‭ ‬أرى‭ ‬التدريسَ‭ ‬بلوى‭ / ‬وكلُّ‭ ‬مدرسٍ‭ ‬فيها‭ .. ‬مُصَابا‭ / ‬فلو‭ ‬عاش‭ ‬المدرسُ‭ ‬ألف‭ ‬عامٍ‭ / ‬لظلَّ‭ ‬بعين‭ ‬طالبِه‭ ‬غُرابا‭ / ‬وإن‭ ‬غضِب‭ ‬المدير‭ ‬عليه‭ ‬يوماً‭ / ‬أحس‭ ‬الناسَ‭ ‬كلُّهمُ‭ ‬غِضابا‭ (‬فعلا‭ ‬يحدث‭ ‬كثيرا‭ ‬أن‭ ‬يحسب‭ ‬الطلاب‭ ‬المعلم‭ ‬طالع‭ ‬شؤم‭ ‬ونحس،‭ ‬بينما‭ ‬السيد‭ ‬المدير‭ ‬قد‭ ‬يعتبر‭ ‬نفسه‭ ‬الآمر‭ ‬الأمير‭ ‬المسؤول‭ ‬عن‭ ‬قطعان‭ ‬البعير‭).‬

ورغم‭ ‬أن‭ ‬التدريس‭ ‬يفتح‭ ‬بوابات‭ ‬النجاح‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المجالات‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬المدرس‭ ‬الذي‭ ‬يؤهل‭ ‬المحاسب‭ ‬والطبيب‭ ‬والمهندس‭ ‬يكون‭ ‬ماديا‭ ‬من‭ ‬مستحقي‭ ‬الزكاة‭ ‬والعناية‭ ‬الطبية‭ ‬الفائقة‭:‬

ولو‭ ‬جمعتَ‭ ‬رواتبَه‭ ‬الخوالي‭ / ‬من‭ ‬التعليم‭ ‬ما‭ ‬بلَغَتْ‭ ‬نِصَابا‭ / ‬دخولُ‭ ‬الصفِّ‭ ‬والتدريس‭ ‬داءٌ‭ / ‬سلوا‭ ‬عنه‭ ‬الملوِّعَ‭ ‬كيف‭ ‬ذابا‭ / ‬وكم‭ ‬عانى‭ ‬خلالَ‭ ‬العامِ‭ ‬دِسْكاً‭ / ‬وآلاماً‭ ‬وضغطاً‭ ‬والتهابا‭ / ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬خاضَ‭ ‬معَ‭ ‬جيلِ‭ ‬الجلكسي‭ / ‬قضى‭ ‬بِالهمِّ‭ ‬وانتحر‭ ‬اكتئابا‭ (‬ولهذا‭ ‬قال‭ ‬قائل‭ - ‬ربما‭ ‬هو‭ ‬الجاحظ‭ - ‬إن‭ ‬معلم‭ ‬الصبية‭ ‬لا‭ ‬تُقبل‭ ‬شهادته‭ ‬في‭ ‬المحاكم‭).‬

وحمدا‭ ‬لله‭ ‬فقد‭ ‬اعتزلت‭ ‬التدريس‭ ‬قبل‭ ‬الطفرات‭ ‬التكنولوجية،‭ ‬التي‭ ‬جعلت‭ ‬معلم‭ ‬أيامنا‭ ‬هذه‭ ‬في‭ ‬واد‭ ‬وطلابه‭ ‬في‭ ‬رابية‭ ‬عالية‭ ‬يحدقون‭ ‬من‭ ‬فوقها‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬إلا‭ ‬السبورة،‭ ‬وأترك‭ ‬المايكروفون‭ ‬لصاحبي‭ ‬الذي‭ ‬مارس‭ ‬التدريس‭ ‬حتى‭ ‬أصبح‭ ‬‮«‬هريس‮»‬‭:‬

فلو‭ ‬علَّمْتَ‭ ‬هذا‭ ‬الجيلَ‭ ‬دهراً‭ / ‬لما‭ ‬عرَف‭ ‬القراءة‭ ‬والحسابا‭ / ‬ولكن‭ ‬أتقَنَ‭ ‬الوتْسَاب‭ ‬غَيباً‭ / ‬وأستاذاً‭ ‬إذا‭ ‬بَعَث‭ ‬السِّنابا‭ / ‬على‭ ‬الرتويت‭ ‬والتغريد‭ ‬يمضي‭ / ‬طَوالَ‭ ‬العام‭ ‬ما‭ ‬فتح‭ ‬الكتابا‭ (‬هوِّن‭ ‬عليك‭ ‬يا‭ ‬صديقي‭ ‬فحتى‭ ‬كآباء‭ ‬لم‭ ‬نعد‭ ‬نجد‭ ‬آذانا‭ ‬صاغية‭ ‬ولا‭ ‬عيونا‭ ‬رائية‭ ‬من‭ ‬عيالنا‭ ‬الممسك‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منهم‭ ‬بأداة‭ ‬مستطيلة‭ ‬الشكل‭ ‬وتراه‭ ‬يمسح‭ ‬سطحها‭ ‬بإصبع‭ ‬واحد‭ ‬يمنة‭ ‬ويسرة،‭ ‬فتحسب‭ ‬أنه‭ ‬يهش‭ ‬عنها‭ ‬حشرات‭ ‬مايكروسكوبية‭).‬

وشاعرنا‭ ‬المدرس‭ ‬المتقاعد‭ (‬سأكون‭ ‬شاكرا‭ ‬لمن‭ ‬يدلني‭ ‬على‭ ‬اسمه،‭ ‬فقد‭ ‬سألت‭ ‬عنه‭ ‬غوغل‭ ‬ولكنه‭ ‬أتاني‭ ‬بالقصيدة‭ ‬دون‭ ‬اسم‭ ‬من‭ ‬صاغها‭ ‬مما‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬غوغل‭ ‬أيضا‭ ‬يضطهد‭ ‬المدرسين‭). ‬المهم‭ ‬أن‭ ‬شاعرنا‭ ‬فاعل‭ ‬خير‭ ‬ويقدم‭ ‬نصيحة‭ ‬ثمينة‭ ‬لمن‭ ‬يستعدون‭ ‬لدخول‭ ‬الحياة‭ ‬العملية‭:‬

فويلٌ‭ ‬للمدرسِّ‭ ‬من‭ ‬زمانٍ‭ / ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬زاولَ‭ ‬التدريسَ‭ ‬شابا‭ / ‬نعمْ‭ ‬بالعلم‭ ‬نبني‭ ‬كل‭ ‬مجدٍ‭/ ‬ولكن‭ ‬المدرّسَ‭ ‬ما‭ ‬أصَابا‭ / ‬فلا‭ ‬تقْرَبْ‭ ‬من‭ ‬التدريسِ‭ ‬يوماً‭ / ‬ولو‭ ‬أعطوكَ‭ ‬باليورو‭ ‬الْحِسَابا‭ / ‬فقد‭ ‬أبحرْتُ‭ ‬في‭ ‬التعليم‭ ‬عُمْراً‭ / ‬غرِقتُ‭ ‬وما‭ ‬تجاوزْتُ‭ ‬العُبَابا‭ / ‬ولما‭ ‬صِرْتُ‭ ‬سِكْراباً‭ ‬عجوزاً‭ / ‬عديمَ‭ ‬النفعِ‭ ‬أعلنتُ‭ ‬المتابا‭ / ‬خرجتُ‭ ‬تقاعُداً‭ ‬ولسانُ‭ ‬حالي‭ / ‬ألا‭ ‬يا‭ ‬ليتني‭ ‬كنتُ‭ ‬ترابا‭.‬

‭(‬قرأت‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬على‭ ‬طالب‭ ‬فكان‭ ‬رده‭ ‬هذا‭ ‬البيت‭ ‬المكسَّر‭: ‬قم‭ ‬للطالب‭ ‬وفه‭ ‬التبجيلا‭ / ‬لولا‭ ‬الطالب‭ ‬لباع‭ ‬المعلم‭ ‬البليلة‭).‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا