العدد : ١٧٠٦٩ - الاثنين ١٦ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٦ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٦٩ - الاثنين ١٦ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٦ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

ورثت الفقر أبا عن جَد

ظلم‭ ‬ذوي‭ ‬القربى‭ ‬شديد‭ ‬المضاضة،‭ ‬ولك‭ ‬أن‭ ‬تتخيل‭ ‬مدى‭ ‬حزني‭ ‬لأن‭ ‬عيالي‭ ‬عايروني‭ ‬بهذا‭ ‬الأمر‭ ‬أو‭ ‬ذاك،‭ ‬بل‭ ‬استكثروا‭ ‬عليّ‭ ‬الاقتران‭ ‬بأمهم‭!! ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬أكبر‭ ‬عيالي‭ ‬طفلاً‭ ‬صغيرا‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬هناك‭ ‬انترنت‭ ‬أو‭ ‬موبايل‭ ‬أو‭ ‬مكدونالدز‭ ‬أو‭ ‬بيرغر‭ ‬كنغ‭ ‬أو‭ ‬بلاي‭ ‬ستيشن‭ ‬أو‭ ‬شعبان‭ ‬عبدالرحيم،‭ ‬وكان‭ ‬منتهى‭ ‬الترف‭ ‬أن‭ ‬اشتري‭ ‬له‭ ‬سندويتش‭ ‬شاورما‭ -‬وفي‭ ‬المناسبات‭ ‬والأعياد‭- ‬دجاج‭ ‬كنتاكي،‭ ‬وكان‭ ‬مهووساً‭ ‬بالسيارات،‭ ‬ويود‭ ‬لو‭ ‬يشتري‭ ‬كل‭ ‬السيارات‭ ‬الصغيرة‭ ‬المعروضة‭ ‬في‭ ‬دكاكين‭ ‬الألعاب،‭ ‬ولم‭ ‬أكن‭ ‬ألبي‭ ‬معظم‭ ‬طلباته‭ ‬لأسباب‭ ‬عديدة‭ ‬من‭ ‬بينها‭ ‬أنني‭ ‬أحرص‭ ‬على‭ ‬ان‭ ‬يعرف‭ ‬عيالي‭ ‬أن‭ ‬طلباتهم‭ ‬ليست‭ ‬‮«‬أوامر‮»‬،‭ ‬ومنها‭ ‬أن‭ ‬إمكاناتي‭ ‬المادية‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تسمح‭ ‬بالبحبحة‭ ‬في‭ ‬الكماليات،‭ ‬وهكذا،‭ ‬وكلما‭ ‬رفضت‭ ‬له‭ ‬طلباً‭ ‬توجه‭ ‬نحو‭ ‬أمه‭ ‬وسألها‭: ‬ماما‭ ‬ليه‭ ‬ما‭ ‬تزوجتِ‭ ‬راجل‭ ‬غني؟‭ ‬فتقول‭ ‬له‭ ‬أمه‭: ‬القسمة‭ ‬والنصيب‭ ‬يا‭ ‬ولدي‭ (‬وهذه‭ ‬ظاهرها‭ ‬التسليم‭ ‬بالقضاء‭ ‬والقدر‭ ‬وباطنها‭ ‬الشكوى‭).‬

وعلى‭ ‬كل‭ ‬حال‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬سؤال‭ ‬هذا‭ ‬الولد‭ ‬الاستنكاري‭ ‬عن‭ ‬بؤس‭ ‬الحال‭ ‬المادي‭ ‬لوالده،‭ ‬أفضل‭ ‬من‭ ‬سؤال‭ ‬أخته‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬صغرها‭ ‬تنظر‭ ‬إلى‭ ‬بشرتها‭ ‬السمراء‭ ‬وتسأل‭ ‬أمها‭: ‬ماما‭ ‬ليه‭ ‬تزوجتِ‭ ‬الراجل‭ ‬الأسود‭ ‬ده؟‭.. ‬بذمتك‭ ‬أليس‭ ‬أبو‭ ‬الجعافر‭ ‬جديرا‭ ‬بالإعجاب‭ ‬لأنه‭ ‬تحمّل‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬الإساءات‭ ‬الطبقية‭ ‬والعنصرية‭ ‬الجارحة‭ ‬ولم‭ ‬يحرم‭ ‬أيا‭ ‬من‭ ‬عياله‭ ‬من‭ ‬الميراث،‭ ‬بل‭ ‬مازال‭ ‬ينفق‭ ‬عليهم‭ ‬قدر‭ ‬طاقته؟

ذلك‭ ‬الولد‭ ‬أكمل‭ ‬تعليمه‭ ‬الجامعي‭ ‬وحصل‭ ‬على‭ ‬وظيفة،‭ ‬وسألني‭ ‬وهو‭ ‬على‭ ‬أعتاب‭ ‬الحياة‭ ‬العملية‭: ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬أصبح‭ ‬غنياً؟‭ ‬قلت‭ ‬له‭: ‬الغبي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬‮«‬غنيا‮»‬،‭ ‬فاستنكر‭ ‬كلامي‭ ‬هذا،‭ ‬خاصة‭ ‬الجزئية‭ ‬المتعلقة‭ ‬بالغباء،‭ ‬فشرحت‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬غباءه‭ ‬يكمن‭ ‬في‭ ‬أنه‭ ‬اختار‭ ‬مهنة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تجعل‭ ‬منه‭ ‬غنياً‭. ‬فقد‭ ‬دخل‭ ‬مجال‭ ‬الإدارة‭ ‬الصحية‭ ‬والطبية،‭ ‬وقلت‭ ‬له‭ ‬إن‭ ‬هناك‭ ‬مهناً‭ ‬لا‭ ‬تسمح‭ ‬لمن‭ ‬يمارسها‭ ‬بالثراء‭. ‬التدريس‭ ‬مثلاً،‭ ‬والمدرس‭ ‬لا‭ ‬يصبح‭ ‬غنيا‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬مارس‭ ‬الدروس‭ ‬الخصوصية‭ ‬عشر‭ ‬ساعات‭ ‬يوميا‭ ‬بعد‭ ‬انتهاء‭ ‬عمله‭ ‬الرسمي‭ ‬لعشرين‭ ‬سنة،‭ ‬وهناك‭ ‬العامل‭ ‬الجيني‭: ‬ليس‭ ‬في‭ ‬عائلتنا‭ ‬شخص‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يوصف‭ ‬بالغنى‭ ‬لو‭ ‬مجازاً،‭ ‬واسم‭ ‬عائلتي‭ ‬هو‭ ‬‮«‬فقير‮»‬‭.. ‬أي‭ ‬والله‭ ‬العظيم‭ ‬بالتحديد‭ ‬تسمى‭ ‬عائلتنا‭ ‬وهي‭ ‬نوبية‭ ‬‮«‬فقير‭ ‬نَسَّي‮»‬‭.. ‬والكلمة‭ ‬الأخيرة‭ ‬بفتح‭ ‬النون‭ ‬وكسر‭ ‬السين‭ ‬المشددة‭ ‬تعني‭ ‬حفيد،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬ترجمة‭ ‬اسم‭ ‬عائلتي‭ ‬هي‭ ‬‮«‬حفيد‭ ‬الفقراء‮»‬،‭ ‬اسم‭ ‬محبط‭ ‬ومثبط‭ ‬للهمة‭! ‬وكما‭ ‬يقال‭ ‬فللإنسان‭ ‬حظ‭ ‬من‭ ‬اسمه،‭ ‬ولا‭ ‬عزاء‭ ‬في‭ ‬كلمة‭ ‬فقير‭ ‬في‭ ‬السودان‭ ‬تعني‭ ‬‮«‬فقيه‭ ‬ومعلم‭ ‬قرآن‮»‬‭. ‬وبالمناسبة‭ ‬فحتى‭ ‬الأطباء‭ ‬حظهم‭ ‬من‭ ‬الثراء‭ ‬ضعيف‭ ‬ولو‭ ‬عملوا‭ ‬في‭ ‬القطاع‭ ‬الخاص‭.‬

والشاهد‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬أي‭ ‬شخص‭ ‬يتقاضى‭ ‬راتباً‭ ‬شهرياً‭ ‬نظير‭ ‬عمله‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬غنياً‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬حالتين‭: ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مرتشياً‭ ‬أو‭ ‬يكون‭ ‬مختلساً‭ (‬والمختلس‭ ‬اسم‭ ‬الدلع‭ ‬لحرامي‭ ‬بس‭ ‬‮«‬على‭ ‬مستوى‮»‬‭ ‬وشكله‭ ‬العام‭ ‬يوحي‭ ‬بالاحترام‭ ‬والمهابة‭).. ‬الغريب‭ ‬في‭ ‬الأمر‭ ‬أن‭ ‬ظروفي‭ ‬المالية‭ ‬ظلت‭ ‬تتحسن‭ ‬عاما‭ ‬بعد‭ ‬عام،‭ ‬ولكن‭ ‬كلما‭ ‬ارتفع‭ ‬دخلي‭ ‬الشهري‭ ‬ارتفعت‭ ‬مطالب‭ ‬أسرتي‭ ‬الممتدة‭ ‬التي‭ ‬تشمل‭ ‬أقاربي‭ ‬حتى‭ ‬الدرجة‭ ‬الخامسة،‭ ‬وأطالع‭ ‬كشف‭ ‬الحساب‭ ‬البنكي‭ ‬وتعلو‭ ‬شفتي‭ ‬ابتسامة‭: ‬ما‭ ‬شاء‭ ‬الله‭ ‬عندي‭ ‬مبلغ‭ ‬محترم‭ ‬في‭ ‬حساب‭ ‬الادخار‭ ‬أو‭ ‬الودائع‭. ‬ويرن‭ ‬الهاتف‭ ‬وتسمع‭ ‬صوت‭ ‬بنت‭ ‬خالة‭ ‬زوج‭ ‬بنت‭ ‬عمك‭ ‬وهي‭ ‬تحدد‭ ‬المبلغ‭ ‬المطلوب‭ ‬لتركيب‭ ‬جسر‭ ‬أسنان‭ ‬لجدتها‭. ‬ويخونك‭ ‬التعبير‭: ‬جدتك‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬حية‭ ‬تسعى؟‭ ‬ويأتيك‭ ‬الرد‭ ‬الغاضب‭: ‬الله‭ ‬أكبر‭ ‬عليك‭ ‬قل‭ ‬ما‭ ‬شاء‭ ‬الله‭ ‬وحول‭ ‬ألف‭ ‬وخمسمائة‭ ‬دولار‭ ‬في‭ ‬موعد‭ ‬أقصاه‭ ‬السبت‭ ‬المقبل‭. ‬قاتل‭ ‬الله‭ ‬الهواتف،‭ ‬ففيما‭ ‬مضى‭ ‬كانت‭ ‬مثل‭ ‬تلك‭ ‬الطلبات‭ ‬تأتي‭ ‬عبر‭ ‬الرسائل‭ ‬البريدية‭ ‬أو‭ ‬البرقيات‭ ‬وكان‭ ‬بإمكانك‭ ‬إنكار‭ ‬تسلمها،‭ ‬ولكن‭ ‬الموبايل‭ ‬السخيف،‭ ‬الذي‭ ‬انتشر‭ ‬في‭ ‬الأيدي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬انتشار‭ ‬الساعات،‭ ‬يجعلك‭ ‬هدفا‭ ‬سهلا،‭ ‬وكأن‭ ‬الذي‭ ‬فينا‭ ‬لا‭ ‬يكفينا‭ ‬فإن‭ ‬الحكومة‭ ‬السودانية‭ ‬جعلت‭ ‬لنفسها‭ ‬نصيباً‭ ‬محدداً‭ ‬في‭ ‬راتبي‭ ‬وراتب‭ ‬كل‭ ‬سوداني‭ ‬يعمل‭ ‬في‭ ‬الخارج‭.. ‬بل‭ ‬إن‭ ‬كل‭ ‬مغترب‭ ‬سوداني‭ ‬مطالب‭ ‬بدفع‭ ‬زكاة‭ ‬سنوية‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬يملك‭ ‬مالاً‭ ‬واجب‭ ‬التزكية‭ ‬أو‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬مستحقي‭ ‬الزكاة‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا