العدد : ١٧٠٦٩ - الاثنين ١٦ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٦ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٦٩ - الاثنين ١٦ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٦ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

ذكريات مع أحباب راحلين (1)

ذكرت‭ ‬في‭ ‬مقال‭ ‬أمس‭ ‬عرضا‭ ‬كيف‭ ‬أن‭ ‬أمي‭ ‬رحمها‭ ‬الله‭ ‬رفضت‭ ‬في‭ ‬بادئ‭ ‬الأمر‭ ‬تزويدها‭ ‬بجهاز‭ ‬تلفون،‭ ‬لأنها‭ ‬كانت‭ ‬تعتبره‭ ‬رجسا‭ ‬من‭ ‬صنع‭ ‬الشيطان،‭ ‬ثم‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬أدركت‭ ‬قيمته‭ ‬وفوائده،‭ ‬وكان‭ ‬صوتها‭ ‬يتهدج‭ ‬من‭ ‬فرض‭ ‬الانفعال‭ ‬وهي‭ ‬تتلقى‭ ‬المكالمات‭ ‬مني،‭ ‬وكانت‭ ‬تختم‭ ‬كل‭ ‬مكاملة‭ ‬معي‭: ‬لا‭ ‬عذر‭ ‬لك‭ ‬بعد‭ ‬اليوم‭ ‬لعدم‭ ‬التواصل‭ ‬معي‭ ‬وأتوقع‭ ‬منك‭ ‬مكالمتين‭ ‬كل‭ ‬يوم‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬الجدال‭ ‬يجدي‭ ‬مع‭ ‬أمي،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬دكتاتورية‭ ‬في‭ ‬الأمور‭ ‬العاطفية‭ ‬بموجب‭ ‬سلطاتها‭ ‬الأمومية‭. ‬وبعد‭ ‬جهد‭ ‬أقنعتها‭ ‬بأن‭ ‬المكالمة‭ ‬من‭ ‬منطقة‭ ‬الخليج‭ ‬إلى‭ ‬السودان‭ ‬تستغرق‭ ‬زمنا‭ ‬طويلا‭ ‬في‭ ‬الطريق،‭ ‬ولهذا‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تلح‭ ‬في‭ ‬أمر‭ ‬المكالمات‭ ‬اليومية‭.‬

وقد‭ ‬استقبلت‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬سنوات‭ ‬شفاهة‭ ‬وعبر‭ ‬الرسائل‭ ‬الإلكترونية‭ ‬أسئلة‭ ‬مؤداها‭: ‬لماذا‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬لأبيك‭ ‬نصيب‭ ‬فيما‭ ‬تكتب‭. ‬ودائماً‭ ‬تأتي‭ ‬على‭ ‬ذكر‭ ‬أمك؟‭ ‬والإجابة‭ ‬بديهية‭: ‬لأنها‭ ‬أمي‭.. ‬ولأنني‭ ‬عشت‭ ‬في‭ ‬كنفها‭ ‬سنوات‭ ‬أطول‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬عشتها‭ ‬في‭ ‬كنف‭ ‬أبي،‭ ‬وليس‭ ‬لأنه‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬جفوة‭ ‬بيني‭ ‬وبين‭ ‬والدي‭ ‬رحمه‭ ‬الله،‭ ‬رغم‭ ‬انه‭ ‬كان‭ ‬ابا‭ ‬تقليديا‭ ‬لا‭ ‬يقبل‭ ‬الجدال‭ ‬ولم‭ ‬يسمع‭ ‬بـ«الرأي‭ ‬والرأي‭ ‬الآخر‮»‬،‭ ‬وأي‭ ‬معارضة‭ ‬لأفكاره‭ ‬كانت‭ ‬تنتهي‭ ‬بعبارة‭ ‬من‭ ‬شاكلة‭: ‬اسكت‭ ‬يا‭ ‬حمارة‭.. ‬اسمع‭ ‬الكلام‭ ‬يا‭ ‬مغفلة‭. ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬العجمة‭ ‬النوبية‭ ‬متمكنة‭ ‬منه‭ ‬رغم‭ ‬انه‭ ‬عاش‭ ‬معظم‭ ‬عمره‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬ناطقة‭ ‬بالعربية،‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬سيبويه‭ ‬مقارنة‭ ‬بأمي‭.. ‬وكانت‭ ‬دكتاتوريته‭ ‬لفظية،‭ ‬أي‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يلجأ‭ ‬إلى‭ ‬القمع‭ ‬والضرب‭.‬

وأذكر‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬ارتدي‭ ‬ملابسي‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬وأنا‭ ‬طالب‭ ‬جامعي‭ ‬عندما‭ ‬وقعت‭ ‬علبة‭ ‬سجائر‭ ‬من‭ ‬جيبي‭ ‬فالتقطها‭ ‬أبي،‭ ‬وأعادها‭ ‬إليّ‭ ‬وهو‭ ‬يقول‭: ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬تدخن‭ ‬فليكن‭ ‬داخل‭ ‬البيت،‭ ‬فأنا‭ ‬لا‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬الناس‭ ‬أن‭ ‬أحد‭ ‬أولاد‭ ‬عباس‭ ‬صعلوك،‭ ‬ولو‭ ‬كنت‭ ‬قليل‭ ‬الأدب‭ ‬لسألته‭: ‬وهل‭ ‬تحسب‭ ‬نفسك‭ ‬الخديوي‭ ‬عباس؟‭ ‬والمهم‭ ‬أنه‭ ‬كبر‭ ‬في‭ ‬نظري‭ ‬رغم‭ ‬انه‭ ‬‮«‬مسح‭ ‬بي‭ ‬الأرض‮»‬،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬حقه‭ ‬أن‭ ‬يمسح‭ ‬أنفي‭ ‬بالتراب،‭ ‬بينما‭ ‬‮«‬صغرت‮»‬‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬نفسي‭.‬

أمي‭ ‬كانت‭ ‬سهلة‭ ‬الاستفزاز‭ ‬وكانت‭ ‬كلما‭ ‬نرفزتها‭ ‬صاحت‭: ‬من‭ ‬أين‭ ‬أتي‭ ‬هذا‭ ‬الولد‭ ‬القبيح؟‭ ‬وكنت‭ ‬أرد‭ ‬عليها‭ ‬بقولي‭: ‬لسوء‭ ‬حظي‭ ‬فقد‭ ‬ورثت‭ ‬تقاطيعك‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬تقاطيع‭ ‬أبي،‭ ‬وكان‭ ‬أبي‭ ‬يسمع‭ ‬كلامي‭ ‬هذا‭ ‬ويضحك‭ ‬ثم‭ ‬يضيف‭: ‬فعلا‭ ‬ولد‭ ‬صعلوك،‭ ‬هنا‭ ‬تنفعل‭ ‬أمي‭: ‬بطني‭ ‬جابت‭ ‬وما‭ ‬خابت‭ ‬ولن‭ ‬اسمح‭ ‬لك‭ ‬بأن‭ ‬تصف‭ ‬ولدي‭ ‬بالصعلوك‭. ‬وعندئذ‭ ‬تشتعل‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية،‭ ‬واتخذ‭ ‬موقفاً‭ ‬محايداً‭ ‬بتشجيع‭ ‬الطرفين‭ ‬بكلام‭ ‬ما‭ ‬معناه‭: ‬كيف‭ ‬تسكت‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الكلام‭ ‬يا‭ ‬أبتاه؟‭ ‬أرحلي‭ ‬يمّه‭ ‬إلى‭ ‬بيت‭ ‬أبيك،‭ ‬وسأشهد‭ ‬إلى‭ ‬جانبك‭ ‬في‭ ‬المحكمة،‭ ‬ثم‭ ‬يكتشف‭ ‬الطرفان‭ ‬أنهما‭ ‬ضحية‭ ‬مؤامرة‭ ‬صعلوكية،‭ ‬فيقومان‭ ‬بتطبيع‭ ‬العلاقات‭ ‬ومطاردتي‭ ‬ولكن‭ ‬هيهات‭.‬

وكانت‭ ‬أمي‭ ‬هي‭ ‬الأكثر‭ ‬حماساً‭ ‬في‭ ‬مسألة‭ ‬تعليمنا،‭ ‬بينما‭ ‬كان‭ ‬والدي‭ ‬لا‭ ‬يمانع‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬نترك‭ ‬الدراسة‭ ‬بعد‭ ‬الثانوية‭ ‬لنعينه‭ ‬في‭ ‬تجارة‭ ‬له‭ ‬كاسدة،‭ ‬وكلما‭ ‬انتقلت‭ ‬من‭ ‬مرحلة‭ ‬إلى‭ ‬أخرى‭ ‬بنجاح‭ ‬كان‭ ‬يقول‭ ‬لمن‭ ‬حوله‭: ‬جعفر‭ ‬هذا‭ ‬ولد‭ ‬مبروك؛‭ ‬فيوم‭ ‬مولده‭ ‬فتحها‭ ‬الله‭ ‬علي‭ ‬وارتفع‭ ‬راتبي‭ ‬الشهري‭ ‬من‭ ‬ثلاثة‭ ‬جنيهات‭ ‬إلى‭ ‬أربعة‭ ‬جنيهات‭ ‬إلا‭ ‬ربع،‭ ‬وتيسرت‭ ‬أموري‭ ‬بعدها،‭ ‬ولكنه‭ (‬يقصدني‭) ‬مخلول‭ -‬أي‭ ‬مختلا‭ ‬عقليا‭- ‬ويضيع‭ ‬عمره‭ ‬في‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬مدرسة‭ ‬إلى‭ ‬أخرى‭.‬

المهم‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬برّاً‭ ‬بوالدي‭ ‬جداً،‭ ‬فرغم‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬أناكفهما‭ ‬ورغم‭ ‬أنهما‭ ‬كانا‭ ‬يضيقان‭ ‬بي‭ ‬أحيانا،‭ ‬فإنني‭ ‬لا‭ ‬أذكر‭ ‬قط‭ ‬أنني‭ ‬أغضبت‭ ‬أحدهما‭ ‬غضباً‭ ‬يصمد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬بضع‭ ‬دقائق‭. ‬وكانا‭ ‬يغضبان‭ ‬فقط‭ ‬إذا‭ ‬أحسا‭ ‬أنني‭ ‬أخطأت‭ ‬وعرضت‭ ‬حياتي‭ ‬للخطر‭ (‬بالعودة‭ -‬مثلا‭- ‬من‭ ‬السينما‭ ‬بعد‭ ‬العاشرة‭ ‬ليلا‭)‬،‭ ‬وسبق‭ ‬والدي‭ ‬أمي‭ ‬إلى‭ ‬دار‭ ‬البقاء‭ ‬بنحو‭ ‬ربع‭ ‬قرن،‭ ‬وأعانني‭ ‬الله‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أقوم‭ ‬بدور‭ ‬راعي‭ ‬أمي‭ ‬وولدها‭ ‬العاقل‭ (‬سقط‭ ‬عني‭ ‬لقب‭ ‬صعلوك‭ ‬بعد‭ ‬مرحلة‭ ‬الشباب‭ ‬المبكر‭)‬،‭ ‬ولكنني‭ ‬لم‭ ‬أكف‭ ‬عن‭ ‬مناكفة‭ ‬أمي‭ ‬والاعتراض‭ ‬على‭ ‬قراراتها‭ ‬لأستمتع‭ ‬بهوجاتها‭ ‬وهي‭ ‬تتكلم‭ ‬معي‭ ‬بلغة‭ ‬عربية‭ ‬مكسرة،‭ ‬ورغم‭ ‬هذا‭ ‬فإنها‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تختتم‭ ‬أي‭ ‬محادثة‭ ‬معي‭ ‬إلا‭ ‬بترديد‭ ‬أنها‭: ‬عافية‭ ‬عليك‭ ‬وعافية‭ ‬منك،‭ ‬فأطالبها‭ ‬بأن‭ ‬يكون‭ ‬نص‭ ‬العفو‭ ‬مكتوباً‭ ‬لأنها‭ ‬قد‭ ‬تغير‭ ‬رأيها‭ ‬لاحقاً‭ ‬فتصيح‭: ‬طول‭ ‬عمرك‭ ‬قليل‭ ‬أدب،‭ ‬فأتوسل‭ ‬إليها‭ ‬أن‭ ‬تخفض‭ ‬صوتها‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬يسمعها‭ ‬عيالي‭ ‬فيعايرونني‭ ‬بذلك‭ ‬اللقب‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا