العدد : ١٧٠٦٩ - الاثنين ١٦ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٦ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٦٩ - الاثنين ١٦ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٦ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

لماذا صغارنا كذلك؟

لسنوات‭ ‬طويلة‭ ‬ظل‭ ‬صندوق‭ ‬الإسعافات‭ ‬الأولية‭ ‬وأرفف‭ ‬وسقف‭ ‬الثلاجة‭ ‬في‭ ‬بيتي‭ ‬ممتلئة‭ ‬بأصناف‭ ‬من‭ ‬ادوية‭ ‬الأطفال،‭ ‬يصلح‭ ‬بعضها‭ ‬لان‭ ‬تغمز‭ ‬فيه‭ ‬قطعة‭ ‬خبز‭ ‬وتأكلها‭ ‬كأحلى‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬الطعام،‭ ‬ثم‭ ‬دار‭ ‬الزمان‭ ‬دورته‭ ‬وصرت‭ ‬أقوم‭ ‬مجددا‭ ‬بتخزين‭ ‬ادوية‭ ‬الأطفال‭ ‬بعد‭ ‬ان‭ ‬صار‭ ‬لي‭ ‬حفيدان،‭ ‬وعموما‭ ‬فإنني‭ ‬لا‭ ‬احتاج‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬الأحيان‭ ‬إلى‭ ‬استشارة‭ ‬طبيب،‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالأمراض‭ ‬التي‭ ‬تصيبني‭ ‬وحرمي‭ ‬وعيالي‭ ‬فالصيدلية‭ ‬المنزلية‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬دواء‭ ‬زوجان‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬وكفاني‭ ‬الله‭ ‬مشقة‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬الصيدليات‭ ‬المناوبة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تناوب‭.‬

ولكن‭ ‬ماذا‭ ‬دها‭ ‬عيال‭ ‬هذا‭ ‬الزمن؟‭ ‬يأكلون‭ ‬من‭ ‬الطعام‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬جيلنا‭ ‬يحسب‭ ‬أنه‭ ‬موجود‭ ‬في‭ ‬الجنة‭ ‬وحدها،‭ ‬ويمنحون‭ ‬أمصالا‭ ‬ولقاحات‭ ‬دوائية‭ ‬وقائية‭ ‬تمنع‭ ‬عنهم‭ ‬وقوع‭ ‬معظم‭ ‬الأمراض،‭ ‬فإذا‭ ‬مرضوا‭ ‬فهنالك‭ ‬أطباء‭ ‬توزعوا‭ ‬اجسام‭ ‬الاطفال‭ ‬واصبحت‭ ‬كل‭ ‬مجموعة‭ ‬منهم‭ ‬مختصة‭ ‬فقط‭ ‬بعلاج‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬جسم‭ ‬الطفل،‭ ‬بحيث‭ ‬أصبح‭ ‬للأطفال‭ ‬عالم‭ ‬قائم‭ ‬بذاته‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الطب،‭ ‬فلهم‭ ‬اخصائيو‭ ‬باطنية‭ ‬وقلب‭ ‬وجراحة‭ ‬وجهاز‭ ‬هضمي‭ ‬وليس‭ ‬ببعيد‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬يوم‭ ‬يختص‭ ‬فيه‭ ‬طبيب‭ ‬فقط‭ ‬بعلاج‭ ‬وجراحة‭ ‬أصابع‭ ‬القدم‭ ‬اليسرى‭ ‬للطفل،‭ ‬أو‭ ‬آلام‭ ‬الفك‭ ‬الناتجة‭ ‬من‭ ‬شفط‭ ‬الرضاعات‭ ‬البلاستيكية‭.‬

ومع‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬فإن‭ ‬طفل‭ ‬هذا‭ ‬الزمان‭ ‬يصاب‭ ‬بالتهاب‭ ‬اللوزتين‭ ‬إذا‭ ‬شرب‭ ‬فنجان‭ ‬شاي،‭ ‬ويصاب‭ ‬بالدوسنتاريا‭ ‬إذا‭ ‬ركت‭ ‬ذبابة‭ ‬على‭ ‬أنف‭ ‬أحد‭ ‬والديه،‭ ‬ويتقشر‭ ‬جلده‭ ‬برغم‭ ‬إخضاعه‭ ‬للاستحمام‭ ‬يوميا‭ ‬باستخدام‭ ‬أنواع‭ ‬من‭ ‬الصابون‭ ‬لو‭ ‬وجدناها‭ ‬على‭ ‬ايامنا‭ ‬لأكلناها‭ ‬ولعقنا‭ ‬شفاهنا‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يصيبنا‭ ‬ضر‭ ‬أو‭ ‬أذى‭.‬

فلماذا‭ ‬يحدث‭ ‬كل‭ ‬هذا؟‭  ‬لا‭ ‬أملك‭ ‬الإجابة‭ ‬ولذا‭ ‬فإن‭ ‬حيرتي‭ ‬تزداد‭ ‬خاصة‭ ‬عندما‭ ‬اقارن‭ ‬حالهم‭ ‬بحال‭ ‬جيلنا‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يتعاطى‭ ‬الاستحمام‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬المناسبات‭ ‬الدينية،‭ ‬وكنا‭ ‬نخاف‭ ‬من‭ ‬الاستحمام‭ ‬ونكثر‭ ‬من‭ ‬الصياح‭ ‬والعويل‭ ‬لتفاديه،‭ ‬وكان‭ ‬أهلنا‭ ‬يستخدمون‭ ‬صابون‭ ‬الغسيل‭ ‬لفرك‭ ‬جلودنا‭ ‬وكان‭ ‬صابون‭ ‬ذلك‭ ‬الزمان‭ ‬يحتوى‭ ‬على‭ ‬صودا‭ ‬كاوية‭ ‬تهرى‭ ‬جلد‭ ‬التمساح‭.‬

وكنا‭ ‬نأكل‭ ‬طعامنا‭ ‬من‭ ‬أطباق‭ ‬لو‭ ‬رآها‭ ‬طفل‭ ‬من‭ ‬زماننا‭ ‬الحالي،‭ ‬لانفجرت‭ ‬قرحته‭ ‬هلعا،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬الاطباق‭ ‬والصحون‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬التركة‭ ‬يورثها‭ ‬الاباء‭ ‬للأبناء،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬الناس‭ ‬يحفلون‭ ‬كثيرا‭ ‬بغسلها‭ ‬عقب‭ ‬كل‭ ‬وجبة‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬الحرص‭ ‬على‭ ‬مصادر‭ ‬المياه‭ ‬بل‭ ‬وحفاظاً‭ ‬على‭ ‬رائحة‭ ‬الاجداد،‭ ‬واستنادا‭ ‬إلى‭ ‬فلسفة‭ ‬تقول‭ ‬إنه‭ ‬لا‭ ‬معنى‭ ‬لإزالة‭ ‬آثار‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الطعام‭ ‬عن‭ ‬الطبق‭ ‬لوضع‭ ‬نوع‭ ‬آخر‭ ‬فيه‭ ‬مادامت‭ ‬أن‭ ‬جميع‭ ‬أنواع‭ ‬الأطعمة‭ ‬ستختلط‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬داخل‭ ‬المعدة‭.‬

ولم‭ ‬يكن‭ ‬الذباب‭ ‬على‭ ‬أيامنا‭ ‬ينقل‭ ‬الباكتيريا،‭ ‬ومن‭ ‬الثابت‭ ‬تاريخياً‭ ‬أن‭ ‬أبناء‭ ‬جيلنا‭ ‬التهموا‭ ‬الذباب‭ ‬بكميات‭ ‬تجارية‭ ‬ليس‭ ‬حباً‭ ‬فيه،‭ ‬ولكن‭ ‬كأمر‭ ‬لا‭ ‬مفر‭ ‬منه،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬لكل‭ ‬عائلة‭ ‬حصة‭ ‬من‭ ‬الذباب‭ ‬تتناسل‭ ‬وتتكاثر‭ ‬وتطير‭ ‬وترك‭ ‬أينما‭ ‬شاءت،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعترض‭ ‬سبيلها‭ ‬أحد،‭ ‬بل‭ ‬وكان‭ ‬الواحد‭ ‬منا‭ ‬يقوم‭ ‬ويقعد‭ ‬والذباب‭ ‬يغطي‭ ‬جسمه‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تقوم‭ ‬الدنيا‭ ‬وتقعد‭ ‬كما‭ ‬يحدث‭ ‬الآن‭ ‬عندما‭ ‬يتصدى‭ ‬أركان‭ ‬حرب‭ ‬كل‭ ‬عائلة‭ ‬بالرشاشات‭ ‬والمبيدات‭ ‬ليصرعوا‭ ‬الذباب‭ ‬المفترى‭ ‬عليه،‭ ‬فسببوا‭ ‬بذلك‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يدروا‭ ‬ثقباً‭ ‬في‭ ‬الاوزون‭ ‬وكان‭ ‬الاوزون‭ ‬في‭ ‬سابق‭ ‬العصر‭ ‬والاوان‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬أمن‭ ‬وسلام‭ ‬بعيدا‭ ‬عنا‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬اسمه‭ ‬يرد‭ ‬حتى‭ ‬على‭ ‬لسان‭ ‬مدرسي‭ ‬العلوم‭ ‬الطبيعية‭. ‬هو‭ ‬في‭ ‬حاله‭ ‬ونحن‭ ‬في‭ ‬حالنا‭.‬

يبدو‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬نجح‭ ‬فيه‭ ‬جيلنا‭ ‬وفشل‭ ‬فيه‭ ‬عيال‭ ‬آخر‭ ‬الزمان‭ ‬هو‭ ‬المصالحة‭ ‬وتطبيع‭ ‬العلاقات‭ ‬مع‭ ‬الطبيعة،‭ ‬فقد‭ ‬كنا‭ ‬صغارا‭ ‬وكبارا‭ ‬نتعامل‭ ‬مع‭ ‬الأشياء‭ ‬كما‭ ‬وجدناها،‭ ‬لا‭ ‬نفلتر‭ ‬الماء‭ ‬ولا‭ ‬نحارب‭ ‬من‭ ‬الكائنات‭ ‬الاخرى‭ ‬إلا‭ ‬التي‭ ‬تبادئ‭ ‬بالعدوان‭ ‬كالعقارب‭ ‬والأفاعي،‭ ‬أما‭ ‬أطفال‭ ‬اليوم‭ ‬فقد‭ ‬ولدوا‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬تتسابق‭ ‬فيه‭ ‬شركات‭ ‬الأدوية‭ ‬لاختراع‭ ‬الأمراض‭ ‬وتغليف‭ ‬السم‭ ‬بالدسم،‭ ‬وتحسب‭ ‬فيه‭ ‬الأمهات‭ ‬أن‭ ‬شبابهن‭ ‬سيحترق‭ ‬إذا‭ ‬أطعمن‭ ‬أطفالهن‭ ‬من‭ ‬أثدائهن‭ ‬ويصدقن‭ ‬ما‭ ‬تقوله‭ ‬تلك‭ ‬الشركة‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬البان‭ ‬كذا‭ ‬وكذا‭ ‬المجففة‭ ‬مثل‭ ‬لبن‭ ‬الأم،‭ ‬وكيف‭ ‬يجوز‭ ‬ذلك؟‭ ‬تلك‭ ‬ادمية‭ ‬وهذه‭ ‬بقرة‭ ‬وكيف‭ ‬ترضى‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬تعطي‭ ‬وليدها‭ ‬ضرع‭ ‬بقرة‭ ‬حتى‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬بشكل‭ ‬غير‭ ‬مباشر؟

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا