العدد : ١٧٠٦٨ - الأحد ١٥ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٤ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٦٨ - الأحد ١٥ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٤ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

عمل الخير ليس فرض كفاية

قلتها‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬كثيرا،‭ ‬وسأظل‭ ‬أردد‭ ‬أنني‭ ‬شديد‭ ‬الإعجاب‭ ‬بأحد‭ ‬أغنى‭ ‬أغنياء‭ ‬العالم‭ ‬ألا‭ ‬وهو‭ ‬بيل‭ ‬غيتس،‭ ‬مؤسس‭ ‬شركة‭ ‬مايكروسوفت‭ ‬للكمبيوتر،‭ ‬الذي‭ ‬تخلى‭ ‬عن‭ ‬إدارتها‭ ‬تماما‭ ‬قبل‭ ‬نحو‭ ‬تسعة‭ ‬أعوام،‭ ‬وليس‭ ‬مرد‭ ‬إعجابي‭ ‬به‭ ‬أملي‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يتبناني،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬يوصي‭ ‬لي‭ ‬بواحد‭ ‬على‭ ‬التريليون‭ ‬من‭ ‬ثروته،‭ ‬بل‭ ‬لكونه‭ ‬ترك‭ ‬منصبه‭ ‬وصار‭ ‬خالي‭ ‬شغل‭ ‬ليتفرغ‭ ‬لدعم‭ ‬الأنشطة‭ ‬الخيرية‭ ‬الإنسانية،‭ ‬وقد‭ ‬تبرع‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬بنحو‭ ‬40‭ ‬مليارا‭ ‬من‭ ‬الدولارات‭ ‬للطفولة‭ ‬ومكافحة‭ ‬الأمراض‭ ‬والأمية‭. (‬أعلن‭ ‬غيتس‭ ‬صراحة‭ ‬أنه‭ ‬لن‭ ‬يترك‭ ‬لعياله‭ ‬الاثنين‭ ‬سوى‭ ‬40‭ ‬مليون‭ ‬دولار‭ ‬فقط‭!! ‬من‭ ‬إجمالي‭ ‬ثروته‭ ‬التي‭ ‬تبلغ‭ ‬الآن‭ ‬74‭ ‬مليار‭ ‬دولار،‭ ‬ولو‭ ‬كنت‭ ‬ابنه‭ ‬لرفعت‭ ‬عليه‭ ‬دعوى‭ ‬بزعم‭ ‬أنه‭ ‬مختل‭ ‬عقلياً،‭ ‬وأنه‭ ‬يريد‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أعيش‭ ‬حياة‭ ‬الذل‭ ‬والفقر‭ ‬بـ20‭ ‬مليون‭ ‬دولار‭ ‬فقط‭).‬

تذكرت‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قرأت‭ ‬خبرا‭ ‬فحواه‭ ‬أن‭ ‬وزارة‭ ‬الشؤون‭ ‬الاجتماعية‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬عربي‭ ‬غني‭ ‬تعد‭ ‬العدة‭ ‬لتنظيم‭ ‬مهرجان،‭ ‬للفت‭ ‬الأنظار‭ ‬إلى‭ ‬معاناة‭ ‬الأيتام‭ ‬وحث‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬رعايتهم،‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬فينا‭ ‬خير‭ ‬لما‭ ‬احتاجت‭ ‬الوزارة‭ ‬إلى‭ ‬بذل‭ ‬الجهد‭ ‬والوقت‭ ‬والمال‭ ‬لتنظيم‭ ‬المهرجان‭ ‬بفعاليات‭ ‬متنوعة‭! ‬ولكننا‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬جعجعتنا‭ ‬الفارغة‭ ‬نعتقد‭ ‬أن‭ ‬العمل‭ ‬الخيري‭ ‬فرض‭ ‬كفاية،‭ ‬إذا‭ ‬قام‭ ‬به‭ ‬البعض‭ ‬سقط‭ ‬عن‭ ‬الباقين،‭ ‬وأنه‭ ‬طالما‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬‮«‬حكومة‮»‬‭ ‬فإن‭ ‬عليها‭ ‬أن‭ ‬تتكفل‭ ‬باليتيم‭ ‬والسائل‭ ‬والمحروم‭ ‬ولا‭ ‬حرج‭ ‬علينا‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬نكنز‭ ‬الذهب‭ ‬واليورانيوم‭.‬

ولأن‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬تعميم‭ ‬ظالم،‭ ‬لأن‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يسهمون‭ ‬في‭ ‬الأعمال‭ ‬الخيرية‭ ‬بانتظام‭ ‬وهناك‭ ‬من‭ ‬التزموا‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬سنوات‭ ‬بكفالة‭ ‬أيتام‭ ‬وأرامل‭ ‬وتوفير‭ ‬رسوم‭ ‬الدراسة‭ ‬والعلاج‭ ‬لطلاب‭ ‬ومرضى‭ ‬فقراء،‭ ‬وبالمناسبة‭ ‬فقد‭ ‬لفت‭ ‬انتباهي‭ ‬وأنا‭ ‬المقيم‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الخليج‭ ‬منذ‭ ‬عصر‭ ‬‮«‬الغوص‭ ‬وتجارة‭ ‬اللؤلؤ‮»‬،‭ ‬أن‭ ‬النساء‭ ‬الخليجيات‭ ‬أكثر‭ ‬ميلا‭ ‬للتبرع‭ ‬للأعمال‭ ‬الخيرية‭ ‬من‭ ‬رجال‭ ‬المنطقة،‭ ‬ولا‭ ‬يفعلن‭ ‬ذلك‭ ‬فقط‭ ‬استجابة‭ ‬لمناشدات‭ ‬تصدر‭ ‬عبر‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام،‭ ‬بل‭ ‬بمبادرات‭ ‬فردية‭.‬

المعنيون‭ ‬بشؤون‭ ‬اليتامى‭ ‬لا‭ ‬يطلبون‭ ‬لهم‭ ‬سوى‭ ‬الحد‭ ‬الأدنى‭ ‬الذي‭ ‬يعصمهم‭ ‬من‭ ‬الزلل‭ ‬والانحراف،‭ ‬ولكن‭ ‬وعلى‭ ‬مرِّ‭ ‬الزمان‭ ‬هناك‭ ‬مئات‭ ‬الآلاف‭ ‬وربما‭ ‬الملايين‭ ‬منا‭ ‬لا‭ ‬شغل‭ ‬لهم‭ ‬سوى‭ ‬تدبير‭ ‬المال‭ ‬بالاقتراض‭ ‬والاختلاس‭ ‬والرهن‭ ‬وبيع‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬ثمين،‭ ‬لقضاء‭ ‬بضعة‭ ‬أسابيع‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬يتاح‭ ‬فيها‭ ‬‮«‬البودي‭ ‬مساج‮»‬‭ ‬والعصائر‭ ‬الاسكتلندية،‭ ‬والفتيات‭ ‬اللواتي‭ ‬يضحكن‭ ‬على‭ ‬السياح‭ ‬بالحب‭ ‬الموسمي‭ ‬فيعصرن‭ ‬جيوبهم،‭ ‬ونعود‭ ‬في‭ ‬خاتمة‭ ‬المطاف،‭ ‬ونحن‭ ‬نعاني‭ ‬من‭ ‬‮«‬اليتم‮»‬‭ ‬العاهر‭ ‬استعداداً‭ ‬لجولات‭ ‬آسيوية‭ ‬أو‭ ‬أوروبية‭ ‬أخرى‭!  ‬ولا‭ ‬يلفت‭ ‬انتباهنا‭ ‬قط‭ ‬كيف‭ ‬أن‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬من‭ ‬كافة‭ ‬الأعمار‭ ‬يقفون‭ ‬في‭ ‬الشوارع‭ ‬يناشدون‭ ‬المارة‭ ‬دعم‭ ‬صندوق‭ ‬السرطان،‭ ‬أو‭ ‬أيتام‭ ‬رواندا‭ ‬أو‭ ‬التماسيح‭ ‬الشاذة‭ ‬في‭ ‬البرازيل‭!  ‬يحدث‭ ‬هذا‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬المواطن‭ ‬الأوروبي‭ ‬العادي‭ ‬هناك‭ ‬يعرف‭ ‬أن‭ ‬حكومته‭ ‬غنية‭ ‬وقوية،‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬فإنه‭ ‬يدرك‭ ‬أن‭ ‬عليه‭ ‬التزاماً‭ ‬أخلاقياً‭ ‬تجاه‭ ‬قضايا‭ ‬بعينها،‭ ‬لذا‭ ‬تجد‭ ‬المنظمات‭ ‬الأوروبية‭ ‬في‭ ‬الطليعة‭ ‬للتصدي‭ ‬للمجاعات‭ ‬والأوبئة،‭ ‬فنلطم‭ ‬نحن‭ ‬الخدود‭ ‬ونقيم‭ ‬سرادق‭ ‬العزاء‭ ‬لأن‭ ‬الصليبيين‭ ‬يدسون‭ ‬السم‭ ‬في‭ ‬الدسم‭.‬

ولو‭ ‬عامل‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منا‭ ‬أيتام‭ ‬بلده‭ ‬كما‭ ‬يعامل‭ ‬جرسونات‭ ‬البلاد‭ ‬التي‭ ‬يهدر‭ ‬فيها‭ ‬ماء‭ ‬صلبه‭ ‬ووجهه،‭ ‬لما‭ ‬جنح‭ ‬حدث‭ ‬أو‭ ‬تشرد،‭ ‬أقول‭ ‬هذا‭ ‬وأنا‭ ‬أعرف‭ ‬مرارة‭ ‬اليتم،‭ ‬ليس‭ ‬لأن‭ ‬والدي‭ ‬رحل‭ ‬عن‭ ‬الدنيا‭ ‬وتركنا‭ ‬بلا‭ ‬عائل‭ ‬وليس‭ ‬لأنه‭ ‬رحل‭ ‬وأنا‭ ‬بعد‭ ‬طفل‭ ‬أو‭ ‬صبي‭ (‬فقد‭ ‬مات‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬بعد‭ ‬تخرجي‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬وترك‭ ‬لنا‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬يقيم‭ ‬الأود‭ ‬وأنا‭ ‬والحمد‭ ‬لله‭ ‬أنتمي‭ ‬لشعب‭ ‬مازال‭ ‬يعرف‭ ‬معنى‭ ‬التراحم‭ ‬والتكافل‭)‬،‭ ‬ولكنني‭ ‬رأيت‭ ‬من‭ ‬حولي‭ ‬نماذج‭ ‬مبكية‭ ‬لكيف‭ ‬أن‭ ‬فقدان‭ ‬الأب‭ ‬الراعي‭ ‬المحب‭ ‬الناصح‭ ‬والرادع‭ ‬والزاجر‭ ‬يترك‭ ‬في‭ ‬النفس‭ ‬خواء‭ ‬يصعب‭ ‬ملؤه‭.‬

أبي‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬كان‭ ‬يملك‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬تملكه‭ ‬هارفارد‭ ‬أو‭ ‬أوكسفورد‭: ‬الحب‭ ‬بلا‭ ‬منة‭ ‬أو‭ ‬حدود‭ ‬أو‭ ‬انتظار‭ ‬جزاء‭ ‬أو‭ ‬شكور،‭ ‬وبرحيله‭ ‬فقدت‭ ‬بوصلتي‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أصبحت‭ ‬أباً‭ ‬ومطالباً‭ ‬بالاقتداء‭ ‬به‭!‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا