تتواصل حرب الإبادة الجماعية غير المسبوقة التي تشنها إسرائيل بلا هوادة على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة. لا شيء يمكن أن تقوله أو تفعله إسرائيل ومؤيدوها يجنبهم المساءلة التاريخية عن إبادة الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
ومن الأهمية بمكان التأكيد أن التاريخ سيحكم على إسرائيل ومؤيديها الذين لن يفلتوا من حكم التاريخ، سواء تعلق الأمر بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين أو بحصول الشعب الفلسطيني على حريته وانعتاقه من الاحتلال.
وفي كل الحروب الماضية وجرائم الحرب التي رافقتها، تمكنت إسرائيل من الضغط على زر إعادة ضبط علاقتها مع الفلسطينيين الذين يرزحون تحت نير الاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني الغاشم على مدى عقود من الزمن.
في أعقاب كل حرب، بدأت آلة الدعاية الإسرائيلية، باستخدام وسائل الإعلام الغربية السائدة والراغبة والمتعاونة دائمًا، في تصوير الفلسطينيين في صورة سلبية وتقديم إسرائيل، على أنها تلك الدولة التي هي في حالة دائمة من الدفاع عن النفس، وعلى أنها الضحية، أو حتى المدافع الوحيد عن الحضارة الغربية.
تتوازى هذه الحملة دائمًا مع تبييض إسرائيل في وسائل الترفيه الشعبية، من أفلام هوليوود إلى البرامج التلفزيونية، وصولا إلى أغلفة المجلات بعناوين مثل «صور رائعة تلتقط الحياة غير المرئية للمجندات في إسرائيل».
وبشكل عام، فإن الساسة الغربيين من مختلف التيارات والانتماءات والأيديولوجيات، إلى جانب المثقفين والمتحدثين في الأخبار وقادة الكنائس المختلفة، كلهم يسهبون بالإشادة بما يسمونه المعجزة التي هي إسرائيل.
في بداية حرب الإبادة الجماعية التي بدأت تشنها إسرائيل في شهر أكتوبر 2023، على سبيل المثال، قال الكاتب المسرحي البريطاني توم ستوبارد إنه «قبل أن نتخذ موقفا بشأن ما يحدث الآن، ينبغي لنا أن نفكر فيما إذا كان هذا صراعا على الأرض أم صراعا بين الحضارة والهمجية». وبطبيعة الحال، فقد كان يميل إلى الرأي الثاني.
يتضمن هذا الأسلوب التكتيكي الذي تعتمده إسرائيل دائمًا شيطنة الفلسطينيين أيضًا، حيث يصبح الضحية هو «الإرهابي» ويصبح الفلسطينيون الذين يعيشون تحت الحصار هم الذين يفرضون الحصار.
وهذا الادعاء الأخير، على وجه الخصوص، تم التعبير عنه بكلمات وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت التي قالت، في مقابلة مع شبكة إن بي سي في شهر أغسطس من سنة 2000: «إن «الإسرائيليين يشعرون بأنهم محاصرون من رماة الحجارة الفلسطينيين والعصابات المختلفة التي تترصدهم».
لماذا ستفشل كل تلك التكتيكات الإسرائيلية نفسها هذه المرة أيضا؟ في الواقع، سوف تفشل كل هذه الأساليب المختلفة، ليس لأن إسرائيل لم تحاول وتكرر المحاولة. في الواقع، تستعد إسرائيل بالفعل لخوض معركة العمر.
من التكتيكات الجديدة التي تستخدمها إسرائيل بالفعل في الدول «الصديقة»، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، هو إقرار قوانين لمنع مجرد الحديث عن الإبادة الجماعية الإسرائيلية في قطاع غزة، بحيث يكون لها وصول حصري إلى الجمهور الأمريكي وتستأثر بمخاطبته.
في يوم 14 نوفمبر الماضي، أقر مجلس النواب الأمريكي مشروعي قانونين: H.R.6408 وHR.9495. ويهدف هذا التشريع الأخير، على وجه الخصوص، إلى منح وزير الخزانة الإذن بإلغاء وضع الإعفاء الضريبي لمنظمة ما وتحديد متى سينتهي التصنيف.
بمجرد إقرار مشاريع القوانين هذه في مجلس الشيوخ وموافقة الرئيس عليها، فإن التعبيرات الأكثر ديمقراطية وسلمية لرفض الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والمطالبة بسياسة خارجية أمريكية معقولة ستعادل انتهاكًا مباشرًا للقانون، وفي بعض الحالات، سترتقي إلى مرتبة الإرهاب. - كما حددتها وزارة الخزانة، بناء على طلب من اللوبي المؤيد لإسرائيل.
لكن حتى هذه المحاولات اليائسة لن تهدئ الغضب أو تشتت الحديث عن الشعب الفلسطيني، وذلك للأسباب التالية:
أولاً، لم تكتف إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في قطاع غزة، بل إن هذه الإبادة الجماعية يجري التحقيق فيها وتعترف بها أكبر المؤسسات القانونية في العالم، وهي محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية.
ثانياً، على عكس التحقيقات السابقة، على سبيل المثال، تقرير غولدستون الذي يحقق في حرب 2008-2009 على غزة، اتخذ المجتمع الدولي بالفعل بعض الخطوات العملية لمحاسبة مجرمي الحرب الإسرائيليين، بما في ذلك مذكرة اعتقال صدرت في 21 نوفمبر الماضي ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين. نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف جالانت.
ثالثاً، أولئك الذين يهبون بشكل روتيني للدفاع عن إسرائيل، والولايات المتحدة الأمريكية والحكومات الغربية الأخرى، يصطدمون الآن بشكل مباشر مع القانون الدولي نفسه الذي ساعدوا في صياغته بعد الحرب العالمية الثانية، مما يحرمهم من أي مصداقية كأطراف «محايدة» في هذا الصراع.
على سبيل المثال، قال الرئيس الأمريكي جو بايدن إن أوامر الاعتقال كانت «مثيرة للسخط»، في حين زعمت وزارة أوروبا والشؤون الخارجية الفرنسية أن نتنياهو ووزراء آخرين يتمتعون بالحصانة لأن إسرائيل ليست طرفًا في المحكمة الجنائية الدولية.
رابعاً، على الرغم من التحيز المتأصل في وسائل الإعلام الغربية، تمكن الصحفيون الفلسطينيون، المعزولون والقتلى بأعداد كبيرة، من نقل الإبادة الجماعية إلى بقية العالم، مما جعل من المستحيل على إسرائيل إخفاء جرائمها.
خامساً، إن تأثير الإبادة الجماعية الإسرائيلية على غزة قد تغلغل بالفعل في مختلف طبقات الرأي العام، وهو أمر غير مسبوق في التاريخ.
عادةً ما يقتصر الحديث عن فلسطين على طبقات محددة من المجتمع، ويصل إلى الأكاديميين ونشطاء العدالة الاجتماعية ومجموعات أخرى مهتمة بالسياسة والقضايا العالمية.
واليوم أصبح الناس العاديون على علم بهذا الواقع، لدرجة أنه يعتقد على نطاق واسع أن الغضب الناجم عن حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطيني غزة قد ساهم إلى حد كبير في تحديد نتيجة الانتخابات الأمريكية الأخيرة.
وفي إفريقيا، أدى الاهتمام السياسي والشعبي المتزايد بالنضال الفلسطيني إلى إحياء روح النضال من أجل التحرير المناهض للاستعمار في القارة، مما أعاد العديد من البلدان، من جنوب إفريقيا إلى الجزائر، إلى الخطوط الأمامية للتضامن العالمي.
لن ينجح أي قدر من الدعاية الإسرائيلية، أو القوانين غير العادلة، أو التصنيفات غير العادلة للفلسطينيين، أو تكتيكات جيش الدفاع الإسرائيلي، في عكس هذه الحقائق أو طمسها. بل إن الزخم العالمي لتحرير فلسطين سوف يتسارع ويتنامى في الأشهر والسنوات المقبلة.
لقد كان الثمن الذي دفعه الشعب الفلسطيني بدمائه مقابل هذه اللحظة المزلزلة باهظاً ومؤلماً جدا، لكن تاريخ كل نضالات التحرر الوطني، بما في ذلك فلسطين، يبين أن ثمن الحرية يكون باهظا دائما.
{ أكاديمي وكاتب فلسطيني
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك