تشير المراجع والمصادر التاريخية أن القائد صلاح الدين الأيوبي لم يكن مجرد قائد عسكري عادي، بل كان زعيمًا متكاملًا جمع بين القيادة الأخلاقية والكفاءة المهنية، فاستطاع توحيد الشعوب المتعددة الثقافات والديانات، وكذلك تغلب على أعداء أقوياء باستخدام مزيج من الدبلوماسية والحرب، مع الالتزام بمبادئه الأخلاقية الإسلامية، بالإضافة إلى ذلك كله نجاحه في استعادة القدس وتأسيس دولة قوية ومستقرة يُعدّ شهادة على مهاراته القيادية الاستثنائية.
تشير كتب السير أن استراتيجية صلاح الدين كانت مزيجًا قويًا من القيادة العسكرية والدبلوماسية، ممزوجة بفكرة أنه هو الوحيد القادر على شن جهاد مقدس ضد الإمارات الصليبية في الشرق الأوسط التي شكلت بدورها دولًا لاتينية مثل (مملكة بيت المقدس). وعلى الرغْم من ذلك، فلم يكن لدى صلاح الدين أي مخاوف بشأن شن حرب على أعدائه بأطيافهم المختلفة. وتم تعزيز سيادة صلاح الدين الأيوبي بين زعماء المسلمين عندما اعترف به الخليفة العباسي في بغداد رسميًا حاكمًا لمصر، والشام، واليمن. وكانت هناك أخطار شخصية كثيرة، حيث نجا صلاح الدين مرتين من محاولات اغتيال على يد الحشاشين، ورد صلاح الدين فورًا بمهاجمة القلعة التي يسيطر عليها الحشاشون في (مدينة مصياف) وكذلك المنطقة المحيطة بها.
وفي الوقت نفسه، اتبع الطريق الدبلوماسي أيضًا، وخاصةً زواجه بـ(عصمة الدين خاتون)، أرملة (نور الدين زنكي)، وهي ابنة حاكم دمشق الراحل (معين الدين أنر)، وهكذا فقد ربط صلاح الدين نفسه بسهولة مع سلالتين حاكمتين في وقت واحد، وعلى طول طريقه كانت هناك انتكاسات أيضًا مثل هزيمته أمام الفرنجة، وهو التعريف العربي للصليبيين، ولا سيما في (معركة تل الجزر) عام 1177م، لكن أوضحت انتصاراته عام 1179م في معركة (مرج عيون) والاستيلاء على قلعة كبيرة على نهر الأرْدُنّ نية صلاح الدين تخليص الشرق الأوسط بالكامل من الفرنجة.
وبدأت معركة حطين في 3 يوليو 1187م، عندما قام رماة صلاح الدين الأيوبي بعملية الكر والفر المستمرة، مما أدى إلى مضايقة مستمرة للفرنجة الزاحفين، وكما قال أحد المؤرخين المسلمين: «لقد غاصت فيهم السهام، فحولت أسودهم إلى قنافذ». وفي اليوم التالي تم اشتباك أكثر أهمية، حيث تمكن فيه صلاح الدين من نشر حوالي 20 ألف جندي في حطين. كان الفرنجة تحت قيادة (غي دي لوزينيان) أو كما أسماه العرب (جفري)، ملك مملكة بيت المقدس (حكم من 1186م إلى 1192م)، كان الفرنجة يفوقون جيش صلاح الدين عددًا، لكنهم كانوا يعانون نقصًا شديدًا في المياه، في حين أشعل جيش المسلمين – المزود بإمدادات وفيرة بفضل قوافل الجمال – النار في العشب الجاف والأغصان لإثارة عطش العدو بشكل أكبر. انهار تشكيل الفرنجة، وكانت المشاة في حالة من الفوضى ولم تعد توفر حلقة الحماية المعتادة لسلاح الفرسان الصادم. اخترقت قوة من سلاح الفرسان بقيادة (ريموند الثالث) خطوط المسلمين، ولكن لم يكن هناك مفر لبقية الجيش وحقق صلاح الدين انتصارًا مدويًا على أكبر جيش جمعه الفرنجة إطلاقًا.
القدرات القيادية لدى صلاح الدين الأيوبي
ليس من السهولة تحليل شخصية صلاح الدين القيادية بمعزل عن قدراته ومهاراته الدبلوماسية، فهو لم يكن قائدًا دكتاتوريًا كما يحلو للبعض أن يدعي، وإنما كان قائدًا يتحلى بالمبادئ الإسلامية، ويعيش الفكر والعقيدة الإسلامية، لنحاول أن نلخص من تلك الصفات بعضها:
أولاً: القدرة العسكرية والاستراتيجية
1. أظهر صلاح الدين عبقرية عسكرية في توحيد الجبهة الإسلامية تحت قيادته، حيث استطاع أن يوحد مصر، بلاد الشام، والحجاز، وهو إنجاز صعب للغاية في ظل تشرذم العالم الإسلامي آنذاك.
2. قاد حملة ناجحة ضد الصليبيين، وكان انتصاره في معركة حطين (1187م) أحد أبرز أمثلة التخطيط العسكري البارع، فقد استطاع عبر هذه المعركة أن يُضعف القوى الصليبية ويسترد القدس لاحقًا، وهو إنجاز كان له صدى عالمي.
3. تميّز صلاح الدين بالمرونة في التخطيط، وقدرته على استغلال نقاط ضعف خصومه وموازنة الموارد المحدودة مع الأهداف الكبيرة.
4. كان صلاح الدين قائدًا يقود من الأمام، حيث كان يوجد شخصيًا في المعارك الكبرى، مما رفع من معنويات جيشه وشجعهم على القتال.
5. عرف بالعدل بين جنوده وشعبه، مما عزز ثقته في صفوف الجيش والمجتمع.
6. أدار صلاح الدين دولته بحنكة، واعتمد على نظام إداري فعّال، فقد كانت لديه القدرة على اختيار الكفاءات المناسبة لمناصب القيادة، مما ساعده على تحقيق الاستقرار الإداري والسياسي.
7. أظهر فهمًا عميقًا للأوضاع السياسية والاجتماعية في المناطق التي سيطر عليها، وكان يعتمد على سياسة التوازن بين القوة والدبلوماسية.
8. عمل صلاح الدين على بناء استراتيجية طويلة المدى لتوحيد المسلمين ضد الصليبيين، فبدأ أولًا بتوطيد حكمه في مصر، ثم انتقل إلى الشام والحجاز لتأمين جبهته الداخلية.
9. اعتمد على استراتيجية (التضييق الممنهج) ضد الصليبيين، حيث استهدف معاقلهم وحاصرهم تدريجيًا بدلاً من مواجهتهم مباشرةً في كل مرة.
ثانيًا: الرؤية السياسية والإدارية
1. كانت لديه رؤية طويلة المدى لتوحيد العالم الإسلامي ضد التهديدات الصليبية، ونجح في بناء تحالفات سياسية معقدة على الرغم من الانقسامات القبلية والطائفية.
2. أدار دولة مترامية الأطراف بحكمة، معتمدًا على مستشارين أكفاء ومراعاة احتياجات الشعوب المختلفة في المناطق التي سيطر عليها.
3. قام بتعزيز البنية التحتية، بما في ذلك بناء المدارس والمستشفيات وتشجيع العلماء، مما ساهم في تعزيز قوة دولته.
4. بصفته قائدًا لدولة مترامية الأطراف، واجه تحديات اقتصادية ولوجستية كبيرة. ولكنه استطاع إدارة الموارد بحنكة، معتمدًا على تعزيز الإنتاج المحلي، والسيطرة على طرق التجارة، وضمان استقرار المناطق التي استولى عليها.
5. أظهر صلاح الدين عدالة غير معتادة في زمنه، فقد سعى إلى تحقيق توازن بين القسوة الضرورية لفرض النظام والرحمة التي تكسبه احترام الناس.
6. خلال حملاته العسكرية، كان يعامل الأسرى بإنسانية، ما جعله يحظى بإعجاب حتى أعدائه.
ثالثًا: أخلاقه وإنسانيته
1. تميّز صلاح الدين بتواضعه على الرغم من قوته العسكرية والسياسية، هذا التواضع مكّنه من كسب ولاء أتباعه وجنوده، وخلق رابط إنساني مع شعبه. وعلى سبيل المثال معاملته للخصوم بعد استعادة القدس عام 1187م؛ حيث قدّم الأمان للأسرى المدنيين على عكس ما فعله الصليبيون عند احتلالهم للمدينة عام 1099م.
2. اشتهر صلاح الدين بروحه الفروسية واحترامه لأعدائه، حتى أن المؤرخين الأوروبيين المعاصرين وصفوه بـ(الفارس النبيل).
3. تجنّب العنف غير الضروري وحاول دائمًا استخدام الدبلوماسية قبل اللجوء إلى السلاح.
ومن أقواله رحمه الله
1. عن القوة والأخلاق: «إنما أنا عبد من عباد الله، ألتمس رضاه بطاعته»، قالها للتعبير عن تواضعه وتقديره لواجبه الديني كقائد ومسؤول أمام الله، كانت هذه العبارة تعكس فهمه العميق لدوره كحاكم يجب أن يتحلى بالعدل والمسؤولية.
2. عن التواضع: «كيف أبتسم والأقصى أسير؟»، تعبير عن إحساسه العميق بالمسؤولية تجاه تحرير القدس، الذي كان هدفه الأسمى، يبرز هذا القول التزامه بقضية أمته وإصراره على تحرير الأراضي المقدسة.
3. عن الوحدة: «لو اتحد المسلمون جميعًا لما وقف أمامهم عدو»، قالها مشيرًا إلى أهمية الوحدة بين المسلمين لمواجهة التحديات المشتركة، خاصة في ظل الصراعات الداخلية التي كانت تمزق العالم الإسلامي آنذاك.
4. عن التسامح مع الأعداء: «لأن يكون لي فضل على الناس أحب إليّ من أن يكون للناس فضل عليّ»، تعكس هذه العبارة فلسفته في التسامح والرحمة حتى مع أعدائه، حيث كان يسعى إلى تحقيق الخير للآخرين بدلًا من التفوق عليهم فقط.
5. عن شرف القيادة: «إذا غدا العالم كله ضدي، وألقى السلاح في وجهي، فإنني سأظل أحمل سيفي، وأقاتل حتى يعود الحق إلى نصابه»، تعبير عن عزيمته وإصراره في الدفاع عن الحق والعدالة، مهما كانت الظروف المحيطة به صعبة.
ماذا قال أعداؤه عنه؟
1. قال ريتشارد قلب الأسد (ملك إنجلترا)؛ وذلك على الرغم من المواجهات الحادة بينه وبين صلاح الدين خلال الحملة الصليبية الثالثة: «إنه رجل شريف ونبيل، لا يُضاهيه أحد في شجاعته وكرمه»، هذا الإعجاب تجلى أيضًا عندما مرض ريتشارد، وأرسل له صلاح الدين طبيبه الخاص وبعض الهدايا كدليل على حسن النية والفروسية.
2. قال المؤرخ الصليبي (إيمريك)، عن تسامح صلاح الدين الأيوبي: «بينما ذبحنا نحن المسلمين دون رحمة، عاملنا صلاح الدين برحمة وإنسانية لم نكن نستحقها».
3. قال عنه المؤرخ جيمس ريستون في كتابه (حروب صلاح الدين والغرب): إنه «قائد استثنائي جمع بين الذكاء العسكري والتسامح الديني، وتفوق في أخلاقه حتى على ملوك أوروبا»، وأضاف أن صلاح الدين كان يضع القيم الإنسانية فوق المكاسب العسكرية.
وهذا غيض من فيض،
فعلى الرغم من معارضته الداخلية وخاصة في الممالك الداخلية وبعض القادة المحليين الذين رفضوا توحيد سلطتهم تحت حكمه، إلا أنه استطاع في النهاية بفضل دبلوماسيته الفذة توحيدهم تحت راية واحدة لهدف أسمى وهو الصراع القوي مع الصليبيين وخاصة (ريتشارد قلب الأسد) الذي كان خصمًا عنيدًا.
وصلاح الدين لم ينجح في معاركه الحربية فحسب، وإنما نجح في كل جبهاته، سواء السياسية أو الدبلوماسية أو الإدارية أو حتى الإنسانية، فقد كانت شخصيته مزيجًا من التواضع والعدالة والشجاعة، وكذلك فإن قدراته المهنية كانت نادرة الحضور في شخصية ديكتاتورية، ومرة أخرى فهو لم يكن مجرد قائد عسكري، بل كان زعيمًا أخلاقيًا وسياسيًا.
وكل الذي أرجو من محاربيه وباغضيه أن يعيدوا النظر في أنفسهم.
zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك