«علاقة التأثير والتأثر بين الأمن الإقليمي ونظيره العالمي» هذه هي الخلاصة الاستراتيجية لحوار المنامة الأمني العشرين الذي نظمه المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية خلال الفترة من 6-8 ديسمبر 2024 وشهد مشاركة كبيرة سواء الوفود الحكومية التي بلغت 63 أو الحضور المباشر، وواقع الأمر أن جلسات الحوار التي وإن اختلفت عناوينها ومنها الاستجابات السياسية والعسكرية للصراعات، المقاربات الدولية لأمن الشرق الأوسط، التفاعل بين الأمن العالمي وأمن الشرق الأوسط، التحديات الدفاعية في عالم معقد، مبادرات الأمن الإقليمي، فإنها جميعها قد استهدفت الإجابة عن ثلاثة تساؤلات أولها: ما طبيعة المستجدات الأمنية؟ وثانيها: هل تكفي الآليات الحالية لحل الصراعات ومواجهة التهديدات؟ وثالثها: ما سبل العمل سواء على المستوى الوطني أو الإقليمي أو العالمي؟ الإجابة عنها هي فكرة المقال وهي أنه من الصعوبة بمكان الفصل بين الأمن الإقليمي ونظيره العالمي، فبداية ومن خلال تحليل كافة الكلمات التي ألقيت في الحوار نجد أن هناك خمسة تهديدات أمنية أولها: أجمع المشاركون على أن عدم حل القضية الفلسطينية حتى الآن بتطبيق حل الدولتين سبب أساسي للتوتر الإقليمي وأن المعضلة لا تكمن في المبادرات التي كان أبرزها مبادرة السلام العربية 2002 وإعلان السعودية تأسيس التحالف العالمي لحل الدولتين 2024 أو القرارات التي نصت بوضوح على إقامة تلك الدولة وكانت موضوعاً رئيسياً للقمة العربية التي استضافتها مملكة البحرين عام 2024، ولكن في الإرادة السياسية سواء من أطراف النزاع أو من جانب القوى الكبرى ذات التأثير في مسار ذلك الصراع، وثانيها: يتمثل في زيادة دور الجماعات دون الدول وتهديدها للأمن الإقليمي وخاصة أنها لا تعترف بمفهوم الدولة الوطنية الموحدة، فضلاً عن سوء توظيف التكنولوجيا الحديثة لتهديد المنشآت الحيوية للدول وكذلك طرق الملاحة البحرية، أيضاً الكابلات البحرية التي يوجد 18% منها في منطقة الشرق الأوسط، وهذا تحد لدول العالم كافة، وثالثها: التهديدات النووية التي تكرس الخلل في توازن القوى الإقليمي وتضع المنطقة بأسرها ضمن حالة من التوتر الدائم وخاصة إذا كانت هناك مواجهات محتملة بين دول لديها السلاح النووي، ورابعها: مصداقية عمل المنظمات الدولية والقانون الدولي والأطر التي ارتضتها الدول لتحقيق الأمن والسلم الدوليين وقد أثير توصيف دقيق وهو أن تلك المنظمات «في طريقها للتآكل» وخاصة في ظل ما يثار بشأن المعايير المزدوجة وتأثيرها على منظومة العلاقات الدولية، وأخيراً نمط التحالفات الدولية الذي نتج عن الصراعات بسبب الأزمة الأوكرانية وكذلك بحر الصين الجنوبي، تلك التحالفات التي تعكس حدة الصراع العالمي، صحيح أن الأمر لن يصل إلى حرب باردة جديدة كما توافق المشاركون ولكن النتيجة ظهور اصطفافات جديدة في المنظومة الدولية، إذا كانت تلك هي التهديدات – على سبيل المثال لا الحصر- فإن التساؤل هو هل تكفي الآليات القائمة لحلها؟ وكان لافتاً ثلاثة أمور أولها: أن قائمة التهديدات تطول بل إنها تزداد بسبب التكنولوجيا الحديثة من ناحية وضعف أو بالأحرى تراجع دور المنظمات الإقليمية من ناحية ثانية بما يعنيه من أن الجهود التقليدية لمواجهة التهديدات غير كافية، وثانيها: بالرغم من المقاربات العسكرية للصراعات فإن تلك الحلول وإن كانت تحقق أهدافها على المدى القصير ولكن لا بد من الحلول السياسية والاقتصادية التي تستهدف في مجملها إعادة بناء الدولة الوطنية في مواجهة الجماعات دون الدول، وثالثها: أن الجهود الدولية لحماية الملاحة البحرية غير كافية ومن ثم استمرار تلك التهديدات التي يصل صداها إلى كل دول العالم التي تعتمد على تلك الممرات في تجارتها.
وتأسيساً على ما سبق، فإن التساؤل المنطقي هو: الصراعات الإقليمية والعالمية إلى أين؟ فعلى الرغم من أنه لم تكن إجابات قاطعة ولكن لوحظ الحديث عن أن الصراعات عند مفترق طرق وأن طريق العودة يتمثل في التعايش لنزع فتيل حالة الاحتدام غير المسبوقة والحد من خطاب الكراهية الذي يعد نتيجة طبيعية لاحتدام تلك الصراعات، بالإضافة إلى تعزيز أدوار المنظمات الإقليمية التي تؤدي دوراً مهماً يتكامل مع منظمة الأمم المتحدة في حفظ السلم والأمن الدوليين بالإضافة إلى قدرتها على فهم أفضل للصراعات الإقليمية، فضلاً عن تفعيل أدوار القوى الكبرى تجاه الصراعات بما تملكه من أدوات ضغط على أطراف الصراع.
وعود على ذي بدء، فإنه لم يعد ممكناً الفصل بين الأمن الإقليمي والأمن العالمي وهو ما تضمنته كلمات المشاركين وبوضوح منها بعض المظاهرات التي تشهدها الدول في أنحاء العالم تفاعلاً مع القضية الفلسطينية، بالإضافة إلى تأثير الصراعات على زيادة معدلات الهجرة غير الشرعية في الدول الأوروبية وانتهاءً بتأثير تهديدات الملاحة البحرية على المعيشة اليومية للمواطنين بسبب زيادة كلفة النقل والشحن والتأمين، فضلاً عن التأثير على مبادرات التقارب بين الحضارات والقيم المشتركة.
وفي خضم تلك النقاشات كان واضحاً إلقاء الضوء على جهود دول الخليج سواء كفرادى أو من خلال منظومة مجلس التعاون للحفاظ على توازن القوى ونزع فتيل الصراعات من خلال جهود الوساطة أو تسهيل الحوار، بالإضافة إلى المبادرات المختلفة لحل الصراعات التي أكد المتحدثون أنها لاتزال على الطاولة لمن أراد انتهاز الفرص انطلاقاً من قناعة مؤداها أن الحوار البناء هو السبيل الوحيد لبناء واستمرارية الشراكات الإقليمية والعالمية التي تتخذ أشكالاً عديدة سواء التنظيمات الإقليمية أو التعاون متعدد الأطراف بشأن قضايا أصبح التعاون بشأنها أمراً حتمياً منها الأمن الغذائي والتغير المناخي والطاقة المتجددة كخيار استراتيجي لمواجهة مخاطر الاعتماد على الطاقة التقليدية بيئياً وجيواستراتيجيا.
وأخيراً وليس آخراً، ساد اتفاق في الرؤى مؤداه أن تعزيز الأمن الوطني لكل دولة أصبح أولوية من خلال بناء الشراكات الأمنية التي تمثل رسالة ردع والتي يتوازى معها بناء القدرات العسكرية لكل دولة.
في ظل تغير مفهوم الأمن على نحو جذري بسبب التكنولوجيا الحديثة، وتعدد مسارح وأطراف الصراعات في أوروبا وبحر الصين الجنوبي والشرق الأوسط، وزيادة عدد ودور الفاعلين من دون الدول، فإن التفكير في مسارات جديدة للسلام والتعايش هدف استحوذ على كلمات المشاركين كافة سواء ممن يمثلون جهات رسمية أو الأكاديميين والشباب المشاركين خلال أيام الحوار الذي كان فرصة مهمة للتعرف على استراتيجيات ورؤى الدول نحو عالم أكثر أمنا واستقراراً ومتطلبات ذلك وكيفية تفعيل دور مؤسساته الدولية التي أسستها الدول وارتضتها لهذا الغرض، ربما يكون تعارض المصالح عائقاً أمام تفاهمات الدول الكبرى ولكن الارتباط بين الأمن الإقليمي ونظيره العالمي يبعث برسالة محددة لكافة الدول هي أمن العالم بأسره أو لا أمن لأي دولة في ظل سطوة التكنولوجيا من دون ردع دولي لمستخدميها من الجماعات من دون الدول.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك