العدد : ١٧٠٦٩ - الاثنين ١٦ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٦ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٦٩ - الاثنين ١٦ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٦ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

الرضا في عصر التكنولوجيا -كيف نتغلب على العزلة الرقمية ونحقق حياة متوازنة؟

بقلم: نبيلة رجب

الجمعة ٠٩ أغسطس ٢٠٢٤ - 02:00

في‭ ‬يومنا‭ ‬هذا،‭ ‬حيث‭ ‬تتحكم‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬حياتنا‭ ‬وتفاصيلها،‭ ‬نجد‭ ‬أنفسنا‭ ‬محاطين‭ ‬بالشاشات‭ ‬والأجهزة‭ ‬الذكية‭. ‬من‭ ‬الهواتف‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تفارق‭ ‬أحضاننا‭ ‬إلى‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬التي‭ ‬تبقي‭ ‬العالم‭ ‬بين‭ ‬أيدينا،‭ ‬تبدو‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬وكأنها‭ ‬تفتح‭ ‬لنا‭ ‬أبوابا‭ ‬لا‭ ‬نهائية‭ ‬من‭ ‬الفرص‭. ‬لكن،‭ ‬هل‭ ‬نحن‭ ‬سعداء‭ ‬حقا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬الرقمي؟

على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬تقلص‭ ‬المسافات‭ ‬الجغرافية،‭ ‬فإنها‭ ‬قد‭ ‬تجعلنا‭ ‬نشعر‭ ‬بالعزلة‭ ‬النفسية،‭ ‬كون‭ ‬التفاعل‭ ‬الرقمي‭ ‬ليس‭ ‬بديلاً‭ ‬كافياً‭ ‬للدفء‭ ‬الإنساني‭ ‬والمحادثات‭ ‬الودية‭ ‬العميقة،‭ ‬ولأنه‭ ‬يفتقر‭ ‬إلى‭ ‬العناصر‭ ‬الإنسانية‭ ‬الأساسية‭ ‬مثل‭ ‬التعبيرات‭ ‬الوجهية‭ ‬ولغة‭ ‬الجسد،‭ ‬مما‭ ‬يجعله‭ ‬أقل‭ ‬إشباعاً‭ ‬مقارنة‭ ‬بالتفاعل‭ ‬المباشر‭. ‬أصبحنا‭ ‬نقيس‭ ‬مكانتنا‭ ‬ومدى‭ ‬قبولنا‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬عدد‭ ‬الإعجابات‭ ‬والمشاركات‭ ‬على‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬مما‭ ‬يزيد‭ ‬من‭ ‬شعورنا‭ ‬بالفراغ‭ ‬والخواء‭ ‬الداخلي‭.‬

العلاقات‭ ‬الإنسانية‭ ‬تسهم‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬الراحة‭ ‬والطمأنينة‭. ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬الشعور‭ ‬بالانتماء‭ ‬والتقدير‭ ‬بلا‭ ‬شك‭ ‬يعزز‭ ‬صحتنا‭ ‬النفسية‭ ‬ويضفي‭ ‬على‭ ‬حياتنا‭ ‬جمالاً‭ ‬ورونقا‭ ‬لا‭ ‬مثيل‭ ‬له‭. ‬كذلك‭ ‬التواصل‭ ‬الفعال‭ ‬مع‭ ‬الأصدقاء‭ ‬والأحباء‭ ‬والعائلة،‭ ‬والانخراط‭ ‬في‭ ‬مجتمعات‭ ‬مساندة،‭ ‬يساعد‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬شبكة‭ ‬تأييد‭ ‬قوية‭ ‬تمنحنا‭ ‬الشعور‭ ‬بالارتياح‭ ‬والأمان‭.‬

وفقا‭ ‬لدراسة‭ ‬من‭ ‬جامعة‭ ‬هارفارد‭ ‬تعرف‭ ‬بـ«دراسة‭ ‬تطوير‭ ‬البالغين‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬استمرت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬75‭ ‬عاما،‭ ‬وُجد‭ ‬أن‭ ‬العلاقات‭ ‬الجيدة‭ ‬هي‭ ‬المفتاح‭ ‬لحياة‭ ‬سعيدة‭ ‬وصحية‭. ‬الأشخاص‭ ‬الذين‭ ‬يتمتعون‭ ‬بعلاقات‭ ‬قوية‭ ‬مع‭ ‬العائلة‭ ‬والأصدقاء‭ ‬والمجتمع‭ ‬ليسوا‭ ‬فقط‭ ‬أكثر‭ ‬سعادة،‭ ‬بل‭ ‬يتمتعون‭ ‬بصحة‭ ‬أفضل‭ ‬مقارنة‭ ‬بمن‭ ‬يعانون‭ ‬من‭ ‬العزلة‭ ‬والخلافات‭ ‬العائلية‭.‬

في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف،‭ ‬نحن‭ ‬مخلوقات‭ ‬اجتماعية،‭ ‬والعلاقات‭ ‬الإنسانية‭ ‬الجيدة‭ ‬تضيء‭ ‬حياتنا‭ ‬وتمنحها‭ ‬معنى‭ ‬أوسع‭.‬

السعي‭ ‬نحو‭ ‬تحسين‭ ‬الذات‭ ‬يعزز‭ ‬من‭ ‬شعورنا‭ ‬بالإنجاز‭ ‬والرضا‭. ‬عندما‭ ‬نتعلم‭ ‬أشياء‭ ‬جديدة‭ ‬أو‭ ‬نطور‭ ‬مهارة،‭ ‬نشعر‭ ‬بالامتنان‭. ‬الفيلسوف‭ ‬الصيني‭ ‬لاو‭ ‬تزو‭ ‬يعبر‭ ‬عن‭ ‬القناعة‭ ‬بأنها‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬السلام‭ ‬الداخلي،‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬الظروف‭ ‬الخارجية‭. ‬ومن‭ ‬جانبه،‭ ‬يرى‭ ‬المعلم‭ ‬الروحي‭ ‬الهندي‭ ‬سادغورو‭ ‬أن‭ ‬الرضا‭ ‬حالة‭ ‬داخلية‭ ‬نعيشها،‭ ‬وليست‭ ‬شيئا‭ ‬نحصل‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬الخارج‭. ‬أما‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الإنجليزي‭ ‬جون‭ ‬ستيوارت‭ ‬ميل‭ ‬فيقول‭: ‬‮«‬أفضل‭ ‬حياة‭ ‬هي‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تتضمن‭ ‬أعلى‭ ‬درجات‭ ‬السعادة،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تطوير‭ ‬الذات‭ ‬وتحقيق‭ ‬الإمكانيات‭ ‬الفردية‮»‬‭.‬

تصنف‭ ‬الصحة‭ ‬الجيدة‭ ‬والروحانية‭ ‬من‭ ‬أسرار‭ ‬الراحة‭ ‬النفسية‭. ‬عندما‭ ‬نحرص‭ ‬على‭ ‬تناول‭ ‬طعام‭ ‬صحي،‭ ‬نمارس‭ ‬الرياضة‭ ‬بانتظام‭ ‬وننام‭ ‬بشكل‭ ‬كاف،‭ ‬نشعر‭ ‬بفرق‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬أجسامنا‭ ‬وعقولنا‭. ‬كما‭ ‬تضيف‭ ‬الروحانية‭ ‬بعدًا‭ ‬جميلا‭ ‬إلى‭ ‬حياتنا،‭ ‬سواء‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الصلاة‭ ‬أو‭ ‬التأمل،‭ ‬فهي‭ ‬تمنحنا‭ ‬السلام‭ ‬الداخلي‭ ‬والاتزان‭. ‬إذ‭ ‬يعد‭ ‬الاهتمام‭ ‬بهذه‭ ‬الجوانب‭ ‬بمثابة‭ ‬الوقود‭ ‬الذي‭ ‬يحفزنا‭ ‬نحو‭ ‬تحسين‭ ‬الذات‭ ‬والرضا،‭ ‬ويشعرنا‭ ‬بالانتماء‭ ‬والدعم‭. ‬بالتوازن‭ ‬بين‭ ‬الصحة‭ ‬الجسدية‭ ‬والروحانية،‭ ‬يمكننا‭ ‬الاستمتاع‭ ‬بحياة‭ ‬يومية‭ ‬مليئة‭ ‬بالراحة‭ ‬والرضا‭.‬

التوازن‭ ‬بين‭ ‬العمل‭ ‬والحياة‭ ‬الخاصة،‭ ‬ورسم‭ ‬حدود‭ ‬واضحة‭ ‬بينهما،‭ ‬والاستمتاع‭ ‬بالهوايات‭ ‬والأنشطة‭ ‬المحببة،‭ ‬من‭ ‬الامور‭ ‬المهمة‭ ‬للغاية،‭ ‬حيث‭ ‬أظهرت‭ ‬أبحاث‭ ‬من‭ ‬‮«‬جمعية‭ ‬علم‭ ‬النفس‭ ‬الأمريكية‮»‬‭ (‬APA‭) ‬أن‭ ‬التوازن‭ ‬بين‭ ‬العمل‭ ‬والحياة‭ ‬الشخصية‭ ‬يؤثر‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬على‭ ‬الصحة‭ ‬النفسية‭ ‬والبدنية‭ ‬للأفراد،‭ ‬حيث‭ ‬أوضحت‭ ‬أن‭ ‬الأشخاص‭ ‬الذين‭ ‬يخصصون‭ ‬وقتا‭ ‬للراحة‭ ‬والهوايات‭ ‬يمتلكون‭ ‬مستويات‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬التوتر‭ ‬والقلق،‭ ‬الذي‭ ‬بدوره‭ ‬يسهم‭ ‬في‭ ‬تحسين‭ ‬جودة‭ ‬حياتهم‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭.‬

إضافة‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬المرونة‭ ‬النفسية‭ ‬هي‭ ‬مهارة‭ ‬مهمة‭ ‬تساعدنا‭ ‬على‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬التحديات‭ ‬والصعوبات‭ ‬اليومية‭. ‬تطوير‭ ‬هذه‭ ‬المهارة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يجعلنا‭ ‬أكثر‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الضغوطات‭ ‬والتغييرات‭ ‬غير‭ ‬المتوقعة‭ ‬بثبات‭ ‬وهدوء‭. ‬لتعزيز‭ ‬هذه‭ ‬المرونة،‭ ‬يمكننا‭ ‬اتباع‭ ‬بعض‭ ‬الخطوات‭ ‬العملية‭ ‬مثل‭:‬

‭- ‬تبني‭ ‬نظرة‭ ‬متفائلة‭ ‬تنطلق‭ ‬من‭ ‬معطيات‭ ‬واقعية،‭ ‬وذلك‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬محاولة‭ ‬رؤية‭ ‬الجانب‭ ‬الإيجابي‭ ‬في‭ ‬المواقف‭ ‬الصعبة‭.‬

‭- ‬التعلم‭ ‬من‭ ‬التجارب‭ ‬السابقة‭: ‬الاستفادة‭ ‬من‭ ‬الخبرات‭ ‬الماضية‭ ‬لتحسين‭ ‬ردود‭ ‬أفعالنا‭ ‬في‭ ‬المستقبل‭.‬

‭- ‬الاحتفاظ‭ ‬بعلاقات‭ ‬دعم‭ ‬دافئة‭: ‬البقاء‭ ‬على‭ ‬اتصال‭ ‬مع‭ ‬الأصدقاء‭ ‬والعائلة‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬الدعم‭ ‬العاطفي‭.‬

هذه‭ ‬الاستراتيجيات‭ ‬العملية‭ ‬تساعدنا‭ ‬على‭ ‬التكيف‭ ‬مع‭ ‬الظروف‭ ‬الصعبة‭ ‬والحفاظ‭ ‬على‭ ‬اتزاننا‭ ‬النفسي‭ ‬والعاطفي‭.‬

في‭ ‬كتابه‭ ‬‮»‬رأسمالية‭ ‬الرضا‮«‬،‭ ‬يقدم‭ ‬أكسل‭ ‬بوشون‭ ‬استنتاجات‭ ‬من‭ ‬علم‭ ‬الأعصاب‭ ‬والتكنولوجيا‭ ‬حول‭ ‬كيفية‭ ‬تحسين‭ ‬حياة‭ ‬الناس‭. ‬يوضح‭ ‬بوشون‭ ‬أن‭ ‬الشعور‭ ‬بالارتياح‭ ‬يعتمد‭ ‬على‭ ‬عدة‭ ‬عوامل،‭ ‬منها‭ ‬التواصل‭ ‬مع‭ ‬الأصدقاء‭ ‬والأشخاص‭ ‬الإيجابيين،‭ ‬الاهتمام‭ ‬بالصحة‭ ‬الجسدية‭ ‬والعقلية،‭ ‬التفاعل‭ ‬مع‭ ‬الفن‭ ‬والموسيقى،‭ ‬والتفكير‭ ‬في‭ ‬الآخرين‭ ‬والعمل‭ ‬الخيري‭.‬

الرضا‭ ‬مزيج‭ ‬من‭ ‬اللحظات‭ ‬البسيطة‭ ‬والاختيارات‭ ‬اليومية‭. ‬هو‭ ‬القناعة‭ ‬بما‭ ‬نحن‭ ‬عليه،‭ ‬والسعي‭ ‬لما‭ ‬نطمح‭ ‬إليه،‭ ‬العناية‭ ‬بأنفسنا‭ ‬ومن‭ ‬نحب‭. ‬السعادة‭ ‬أو‭ ‬الرضا‭ ‬ليست‭ ‬هدفا‭ ‬بعيد‭ ‬المنال،‭ ‬بل‭ ‬هما‭ ‬هنا،‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬نعيشه‭ ‬بكل‭ ‬تفاصيله‭. ‬الحياة‭ ‬مليئة‭ ‬بالخيارات،‭ ‬ويمكن‭ ‬دائما‭ ‬اتخاذ‭ ‬القرار‭ ‬بأن‭ ‬نكون‭ ‬راضين‭. ‬دعونا‭ ‬نعيش‭ ‬هذه‭ ‬الرحلة‭ ‬بوعي،‭ ‬ونستمتع‭ ‬بكل‭ ‬لحظة،‭ ‬ونعمل‭ ‬على‭ ‬نشر‭ ‬الارتياح‭ ‬في‭ ‬حياتنا‭ ‬وحياة‭ ‬من‭ ‬حولنا‭.‬

فالاهتمام‭ ‬بالعلاقات‭ ‬الإنسانية،‭ ‬والسعي‭ ‬الدائم‭ ‬لتحسين‭ ‬الذات‭ ‬والروحانية،‭ ‬والحرص‭ ‬على‭ ‬اللحظات‭ ‬الصغيرة‭ ‬التي‭ ‬نقضيها‭ ‬مع‭ ‬العائلة‭ ‬والأصدقاء،‭ ‬والابتسامة‭ ‬الصادقة،‭ ‬كلها‭ ‬تشكل‭ ‬نسيج‭ ‬السعادة‭ ‬الحقيقية‭. ‬لا‭ ‬ندع‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬تسرق‭ ‬منا‭ ‬أوقاتنا‭ ‬الثمينة‭. ‬لنبحث‭ ‬عن‭ ‬التوازن‭ ‬الذي‭ ‬يناسب‭ ‬كل‭ ‬منا،‭ ‬ولنحتضن‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬بكل‭ ‬تفاصيله‭. ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف،‭ ‬نحن‭ ‬من‭ ‬نصنع‭ ‬سعادتنا،‭ ‬لنجعل‭ ‬من‭ ‬حياتنا‭ ‬قصة‭ ‬تستحق‭ ‬أن‭ ‬تروى‭.‬

 

rajabnabeela@gmail‭.‬com

‭   ‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا