العدد : ١٧٠٦٩ - الاثنين ١٦ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٦ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٦٩ - الاثنين ١٦ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٦ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

المواطنة.. في عهد الخلافة الراشدة!

بقلم: عبدالرحمن علي البنفلاح

الأحد ١٩ مايو ٢٠٢٤ - 02:00

في‭ ‬بيان‭ ‬إنساني‭ ‬عام،‭ ‬وفي‭ ‬عهد‭ ‬وثيق،‭ ‬ووعد‭ ‬أكيد،‭ ‬قال‭ ‬تعالى‭: (‬يا‭ ‬أيها‭ ‬الناس‭ ‬إنا‭ ‬خلقناكم‭ ‬من‭ ‬ذكر‭ ‬وأنثى‭ ‬وجعلناكم‭ ‬شعوبًا‭ ‬وقبائل‭ ‬لتعارفوا‭ ‬إن‭ ‬أكرمكم‭ ‬عند‭ ‬الله‭ ‬أتقاكم‭ ‬إن‭ ‬الله‭ ‬عليم‭ ‬خبير‭) ‬الحجرات‭ / ‬13‭.‬

لقد‭ ‬نزل‭ ‬هذا‭ ‬البيان‭ ‬الجامع‭ ‬المانع‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬للإنسانية‭ ‬حقوق‭ ‬يجب‭ ‬الوفاء‭ ‬بها،‭ ‬وعهود‭ ‬يجب‭ ‬ألا‭ ‬تنقض،‭ ‬وكانت‭ ‬حياته‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭ ‬وعهوده،‭ ‬وعهود‭ ‬صحابته‭ ‬الكرام،‭ ‬وخاصة‭ ‬خلفاءه‭ ‬الراشدين‭ ‬منهم‭ ‬والذين‭ ‬ألزموا‭ ‬أنفسهم‭ ‬بما‭ ‬ألزمهم‭ ‬به‭ ‬الإسلام،‭ ‬ووقفوا‭ ‬عند‭ ‬حدوده‭ ‬التي‭ ‬رسمها‭ ‬الإسلام‭ ‬لهم‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬الأمم‭ ‬الأخرى،‭ ‬يقول‭ ‬تعالى‭: (‬لا‭ ‬ينهاكم‭ ‬الله‭ ‬عن‭ ‬الذين‭ ‬لم‭ ‬يقاتلوكم‭ ‬في‭ ‬الدين‭ ‬ولم‭ ‬يخرجوكم‭ ‬من‭ ‬دياركم‭ ‬أن‭ ‬تبروهم‭ ‬وتقسطوا‭ ‬إليهم‭ ‬إن‭ ‬الله‭ ‬يحب‭ ‬المقسطين‭) ‬الممتحنة‭ / ‬8‭.‬

الإسلام‭ ‬العظيم‭ ‬بهذا‭ ‬البند‭ ‬من‭ ‬القانون‭ ‬الإلهي‭ ‬ألزم‭ ‬نفسه‭ ‬بالحفاظ‭ ‬على‭ ‬حقوق‭ ‬الأقوام‭ ‬الذين‭ ‬استظلوا‭ ‬بظلال‭ ‬الإسلام،‭ ‬وعاشوا‭ ‬في‭ ‬كنفه‭ ‬ممن‭ ‬كفوا‭ ‬أيديهم‭ ‬عن‭ ‬الإساءة‭ ‬إلى‭ ‬المسلمين‭ ‬،‭ ‬ولقد‭ ‬حاول‭ ‬بعض‭ ‬المسلمين‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ (‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭) ‬الإساءة‭ ‬إلى‭ ‬يهودي‭ ‬باتهامه‭ ‬زورًا‭ ‬بالسرقة،‭ ‬ولفقوا‭ ‬له‭ ‬الأدلة‭ ‬الباطلة،‭ ‬وكاد‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ (‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭) ‬أن‭ ‬يطبق‭ ‬عليه‭ ‬حد‭ ‬السرقة‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬أنزل‭ ‬قرآنًا‭ ‬يتلى‭ ‬إلى‭ ‬يوم‭ ‬القيامة‭ ‬ويتعبد‭ ‬به،‭ ‬قال‭ ‬تعالى‭: (‬إنا‭ ‬أنزلنا‭ ‬إليك‭ ‬الكتاب‭ ‬بالحق‭ ‬لتحكم‭ ‬بين‭ ‬الناس‭ ‬بما‭ ‬أراك‭ ‬الله‭ ‬ولا‭ ‬تكن‭ ‬للخائنين‭ ‬خصيما‭) ‬النساء‭ / ‬105‭.‬

لقد‭ ‬سار‭ ‬الصحابة‭ ‬الكرام‭ (‬رضي‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬عنهم‭ ‬وأرضاهم‭) ‬على‭ ‬هدي‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ (‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭)‬،‭ ‬فحافظوا‭ ‬على‭ ‬العهود‭ ‬والمواثيق،‭ ‬وأعطوا‭ ‬الناس‭ ‬حقوقهم،‭ ‬والأمثلة‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬كثيرة‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الخلافة‭ ‬الراشدة،‭ ‬وها‭ ‬هو‭ ‬الخليفة‭ ‬الراشد‭ ‬الثاني‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الخطاب‭ (‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه‭) ‬يرفع‭ ‬إليه‭ ‬أحد‭ ‬المصريين‭ ‬الأقباط‭ ‬مظلمته‭ ‬على‭ ‬ابن‭ ‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬العاص‭ (‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه‭)‬،‭ ‬فينصفه‭ ‬الخليفة‭ ‬عمر،‭ ‬ويقول‭ ‬لعامله‭ ‬على‭ ‬مصر‭: ‬‮«‬يا‭ ‬عمرو‭ ‬متى‭ ‬استعبدتم‭ ‬الناس‭ ‬وقد‭ ‬ولدتهم‭ ‬أمهاتهم‭ ‬أحرارا‮»‬‭.‬

ومثال‭ ‬آخر‭ ‬على‭ ‬عناية‭ ‬الإسلام‭ ‬وخلفائه‭ ‬الراشدين‭ ‬بأهل‭ ‬الذمة‭ ‬من‭ ‬اليهود‭ ‬والنصارى،‭ ‬ومن‭ ‬هم‭ ‬في‭ ‬حكمهم،‭ ‬فحفظ‭ ‬لهم‭ ‬الإسلام‭ ‬حقوق‭ ‬المواطنة،‭ ‬فيرى‭ ‬أمير‭ ‬المؤمنين‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬الخطاب‭ (‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه‭) ‬يهوديًا‭ ‬يتكفف‭ ‬الناس،‭ ‬فهال‭ ‬عمر‭ ‬حاله،‭ ‬فسأله‭ ‬عن‭ ‬ذلك،‭ ‬فقال‭ ‬له‭: ‬أنا‭ ‬يهودي‭ ‬وليس‭ ‬لي‭ ‬عائل‭ ‬أو‭ ‬راتب‭ ‬لأدفع‭ ‬الجزية،‭ ‬وأنفق‭ ‬على‭ ‬طعامي‭ ‬وشرابي،‭ ‬فقال‭ ‬له‭: ‬ما‭ ‬أنصفناك‭ ‬أخذنا‭ ‬منك‭ ‬وأنت‭ ‬قوي‭ ‬وتركناك‭ ‬وأنت‭ ‬ضعيف،‭ ‬فأسقط‭ ‬عنه‭ ‬الجزية،‭ ‬وجعل‭ ‬له‭ ‬راتبًا،‭ ‬ولمن‭ ‬يقوم‭ ‬بشأنه،‭ ‬ثم‭ ‬قال‭ ‬لخازن‭ ‬بيت‭ ‬المال‭: ‬انظر‭ ‬هذا‭ ‬وأترابه،‭ ‬فاجعل‭ ‬لهم‭ ‬ما‭ ‬يسد‭ ‬حاجاتهم‭!.‬

وللمرأة‭ ‬نصيب‭ ‬موفور‭ ‬من‭ ‬عدل‭ ‬عمر‭ ‬ورحمته،‭ ‬فقد‭ ‬شكت‭ ‬إليه‭ ‬امرأة‭ ‬من‭ ‬أقباط‭ ‬مصر‭ ‬عامله‭ ‬على‭ ‬مصر‭ ‬عمرو‭ ‬بن‭ ‬العاص‭ (‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه‭) ‬الذي‭ ‬أخذ‭ ‬بيتها‭ ‬عنوة‭ ‬وضمه‭ ‬إلى‭ ‬المسجد‭ ‬عندما‭ ‬ضاق‭ ‬المسجد‭ ‬بالمصلين،‭ ‬ولقد‭ ‬عرض‭ ‬عليها‭ ‬الوالي‭ ‬مالًا‭ ‬مقابل‭ ‬هذا‭ ‬البيت،‭ ‬فأبت‭ ‬عليه‭ ‬ذلك‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬رفضت‭ ‬عروضه‭ ‬كلها،‭ ‬فغضب‭ ‬منه‭ ‬أمير‭ ‬المؤمنين،‭ ‬وأمره‭ ‬أن‭ ‬يعيد‭ ‬إليها‭ ‬بيتها،‭ ‬وأن‭ ‬يسترضيها،‭ ‬وأن‭ ‬فعله‭ ‬هذا‭ ‬يسيئ‭ ‬إلى‭ ‬الإسلام،‭ ‬ويشوه‭ ‬صورته‭ ‬عند‭ ‬الناس‭.‬

وفي‭ ‬عهد‭ ‬الخليفة‭ ‬الراشد‭ ‬الرابع‭ ‬الإمام‭ ‬علي‭ ‬بن‭ ‬أبي‭ ‬طالب‭ (‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه‭) ‬سقط‭ ‬درعه‭ ‬منه‭ ‬والتقطه‭ ‬يهودي،‭ ‬وادعى‭ ‬ملكيته،‭ ‬فتحاكم‭ ‬هو‭ ‬واليهودي‭ ‬إلى‭ ‬القاضي،‭ ‬فحكم‭ ‬القاضي‭ ‬بالدرع‭ ‬إلى‭ ‬اليهودي‭ ‬لعدم‭ ‬كفاية‭ ‬الأدلة‭ ‬على‭ ‬ملكية‭ ‬الإمام‭ (‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه‭) ‬ورضي‭ ‬الإمام‭ ‬بالحكم،‭ ‬وتعجب‭ ‬اليهودي‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الحكم،‭ ‬واعترف‭ ‬اليهودي‭ ‬بأن‭ ‬الدرع‭ ‬هو‭ ‬ملك‭ ‬لأمير‭ ‬المؤمنين،‭ ‬فأعطاه‭ ‬الإمام‭ ‬إياه‭ ‬فأعلن‭ ‬اليهودي‭ ‬إسلامه‭.‬

وفي‭ ‬عهد‭ ‬الخليفة‭ ‬الراشد‭ ‬عمر‭ ‬بن‭ ‬عبدالعزيز‭ (‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنه‭) ‬رفعت‭ ‬امرأة‭ ‬من‭ ‬أقباط‭ ‬مصر‭ ‬تطلب‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يأمر‭ ‬عامله‭ ‬على‭ ‬مصر‭ ‬أن‭ ‬يرفع‭ ‬جدار‭ ‬بيتها‭ ‬حماية‭ ‬لدجاجها‭ ‬التي‭ ‬تأكلها‭ ‬الكلاب،‭ ‬فأرسل‭ ‬إلى‭ ‬عامله‭ ‬على‭ ‬مصر‭ ‬بأن‭ ‬يرفع‭ ‬جدار‭ ‬بيتها‭ ‬حماية‭ ‬لدجاجاتها،‭ ‬فسارع‭ ‬الوالي‭ ‬إلى‭ ‬تنفيذ‭ ‬ما‭ ‬أمره‭ ‬به‭ ‬أمير‭ ‬المؤمنين‭.‬

وكما‭ ‬التزم‭ ‬الخلفاء‭ ‬والولاة‭ ‬بعهود‭ ‬الإسلام‭ ‬ومواثيقه‭ ‬تجاه‭ ‬أهل‭ ‬الذمة‭ ‬ومنهم‭ ‬في‭ ‬حكمهم،‭ ‬فإن‭ ‬علماء‭ ‬الإسلام‭ ‬ساروا‭ ‬على‭ ‬نهجهم،‭ ‬وها‭ ‬هو‭ ‬الإمام‭ ‬الأعظم‭ ‬أبو‭ ‬حنيفة‭ ‬يرعى‭ ‬حقوق‭ ‬جاره‭ ‬اليهودي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يشرب‭ ‬الخمر،‭ ‬ويردد‭ ‬أبياتًا‭ ‬من‭ ‬الشعر،‭ ‬كان‭ ‬يقول‭: ‬

أضاعوني‭ ‬وأي‭ ‬فتى‭ ‬أضاعوا‭ ‬

ليوم‭ ‬كريهة‭ ‬وسداد‭ ‬ثغر

وخلوني‭ ‬لمعترك‭ ‬المنايا

وقد‭ ‬شرعت‭ ‬أسنتها‭ ‬لنحري

كأني‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬فيهم‭ ‬وسيطًا

ولا‭ ‬لي‭ ‬نسب‭ ‬في‭ ‬آل‭ ‬عمر‭ ‬

وكان‭ ‬هذا‭ ‬الجار‭ ‬يؤذي‭ ‬الإمام،‭ ‬ويقض‭ ‬مضجعه،‭ ‬ولما‭ ‬افتقد‭ ‬صوته‭ ‬سأل‭ ‬عنه‭ ‬قالوا‭: ‬ألقت‭ ‬العسس‭ ‬القبض‭ ‬عليه،‭ ‬فذهب‭ ‬الإمام‭ ‬أبو‭ ‬حنيفة‭ ‬إلى‭ ‬الأمير‭ ‬عيس‭ ‬بن‭ ‬موسى،‭ ‬وطلب‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يفك‭ ‬أسره،‭ ‬ففعل‭ ‬بل‭ ‬زاد‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬بأن‭ ‬أطلق‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬قبض‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الليلة‭ ‬كرامة‭ ‬للإمام،‭ ‬فلما‭ ‬خرج‭ ‬الإمام‭ ‬بجاره‭ ‬قال‭ ‬له‭: ‬هل‭ ‬أضعناك‭ ‬يا‭ ‬فتى؟‭ ‬قال‭: ‬بل‭ ‬حفظتني‭ ‬حفظك‭ ‬الله‭.‬

وهكذا‭ ‬حقق‭ ‬الإسلام‭ ‬مبدأ‭ ‬المواطنة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لها‭ ‬عنوان،‭ ‬ورعى‭ ‬بها‭ ‬حقوق‭ ‬الآخرين‭ ‬بالقسطاس‭ ‬المستقيم،‭ ‬وعاش‭ ‬أهل‭ ‬الذمة‭ ‬من‭ ‬اليهود‭ ‬والنصارى،‭ ‬ومن‭ ‬هم‭ ‬في‭ ‬حكمهم‭ ‬في‭ ‬دولة‭ ‬الخلافة‭ ‬الراشدة‭ ‬في‭ ‬أمن‭ ‬وأمان‭ ‬التي‭ ‬اتسعت‭ ‬لهم‭ ‬ولمن‭ ‬آثر‭ ‬البقاء‭ ‬في‭ ‬دولة‭ ‬الخلافة‭ ‬الراشدة‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا