العدد : ١٧٠٦٩ - الاثنين ١٦ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٦ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٦٩ - الاثنين ١٦ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٦ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

ملامح المرحلة الجديدة للصراع في الشرق الأوسط

بقلم: د. حسن نافعة {

الثلاثاء ٣٠ أبريل ٢٠٢٤ - 02:00

تتميّز‭ ‬منطقة‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬بتعدّد‭ ‬صراعاتها‭ ‬وتعقيدها‭ ‬وتشابكها،‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬التداخل‭ ‬العضوي‭ ‬فيما‭ ‬بينها‭. ‬لذا،‭ ‬يبدو‭ ‬أنّ‭ ‬هذه‭ ‬المنطقة‭ ‬دخلت‭ ‬مرحلة‭ ‬صراعية‭ ‬جديدة‭ ‬عقب‭ ‬شنّ‭ ‬إيران‭ ‬هجوماً‭ ‬عسكرياً‭ ‬مباشراً‭ ‬على‭ ‬إسرائيل،‭ ‬في‭ ‬13‭ ‬أبريل‭ ‬الحالي،‭ ‬ردّاً‭ ‬على‭ ‬عدوان‭ ‬كانت‭ ‬إسرائيل‭ ‬قد‭ ‬شنّته‭ ‬على‭ ‬القنصلية‭ ‬الإيرانية‭ ‬في‭ ‬دمشق،‭ ‬وراح‭ ‬ضحيّته‭ ‬عدد‭ ‬لا‭ ‬يستهان‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬ضبّاط‭ ‬الحرس‭ ‬الثوري‭ ‬الإيراني‭. ‬وبصرف‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬الجدل‭ ‬بشأن‭ ‬حجم‭ ‬الخسائر‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬التي‭ ‬نجمت‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الهجوم،‭ ‬الذي‭ ‬استخدمت‭ ‬فيه‭ ‬إيران‭ ‬مئات‭ ‬الطائرات‭ ‬المُسيّرة‭ ‬والصواريخ‭ ‬الباليستية‭ ‬والمُجنّحة،‭ ‬سيكون‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬على‭ ‬إسرائيل‭ ‬ابتلاعه‭ ‬أو‭ ‬السكوت‭ ‬عنه،‭ ‬وقد‭ ‬عمدت‭ ‬إثر‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬ضرب‭ ‬مواقع‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬إيران‭.‬

ولإدراك‭ ‬طبيعة‭ ‬وسمات‭ ‬المرحلة‭ ‬التي‭ ‬بدأت‭ ‬إرهاصاتها‭ ‬تظهر‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬علينا‭ ‬تذكّر‭ ‬أنّ‭ ‬للصراع‭ ‬المحتدم‭ ‬حالياً‭ ‬بين‭ ‬إيران‭ ‬وإسرائيل‭ ‬أسباباً‭ ‬وجذوراً‭ ‬عميقة،‭ ‬تعود‭ ‬بداياتها‭ ‬إلى‭ ‬الثورة‭ ‬الإسلامية‭ (‬1979‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬أطاحت‭ ‬بنظام‭ ‬الشاه‭ ‬الذي‭ ‬ربطته‭ ‬بإسرائيل‭ ‬والولايات‭ ‬المتّحدة‭ ‬علاقات‭ ‬قوّية‭ ‬ومتميّزة‭. ‬بمجرّد‭ ‬نجاح‭ ‬تلك‭ ‬الثورة،‭ ‬قامت‭ ‬إيران‭ ‬على‭ ‬الفور‭ ‬بقطع‭ ‬جميع‭ ‬علاقاتها‭ ‬مع‭ ‬إسرائيل،‭ ‬ولم‭ ‬تكتفِ‭ ‬بطرد‭ ‬السفير‭ ‬الإسرائيلي،‭ ‬وإنّما‭ ‬قرّرت‭ ‬أيضاً‭ ‬تسليم‭ ‬منظمةِ‭ ‬التحريرِ‭ ‬الفلسطينية‭ ‬مقرَّ‭ ‬السفارة‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬في‭ ‬طهران‭. ‬وبذلت‭ ‬إسرائيل‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬جهوداً‭ ‬مُضنيةً‭ ‬لاحتواء‭ ‬الثورة‭ ‬الإيرانية‭ ‬واستعادة‭ ‬نفوذها‭ ‬القديم‭ ‬في‭ ‬طهران،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬عقب‭ ‬اندلاع‭ ‬الحرب‭ ‬العراقية‭ ‬الإيرانية،‭ ‬وتمكّنت‭ ‬بالفعل‭ ‬من‭ ‬إقامة‭ ‬جسور‭ ‬اتصالات‭ ‬سرّية‭ ‬زوّدت‭ ‬عبرها‭ ‬إيران‭ ‬بأسلحة‭ ‬إسرائيلية‭ (‬خلال‭ ‬1981‭-‬1983‭)‬،‭ ‬ومكّنتها‭ ‬من‭ ‬إبرام‭ ‬صفقة‭ ‬سرّية‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬سلاح‭ ‬أمريكي‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬إدارة‭ ‬الرئيس‭ ‬رونالد‭ ‬ريجان‭ (‬عرفت‭ ‬بعد‭ ‬كشفها‭ ‬عام‭ ‬1986‭ ‬بـ‮«‬فضيحة‭ ‬الكونترا‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬إيران‭ ‬جيت‮»‬‭). ‬ولأنّ‭ ‬هذه‭ ‬المحاولات‭ ‬كلها‭ ‬باءت‭ ‬بالفشل،‭ ‬راحت‭ ‬العلاقات‭ ‬الإيرانية‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬تأخد‭ ‬مُنحى‭ ‬صراعياً‭ ‬متصاعداً‭ ‬باطراد،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬بعد‭ ‬انتهاء‭ ‬الحرب‭ ‬مع‭ ‬العراق،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬وصلت‭ ‬إلى‭ ‬حالة‭ ‬الصدام‭ ‬المسلّح‭ ‬التي‭ ‬وصلت‭ ‬إليها‭ ‬الآن‭.‬

للصراع‭ ‬المحتدم‭ ‬بين‭ ‬إيران‭ ‬وإسرائيل‭ ‬منذ‭ ‬فترة‭ ‬طويلة‭ ‬روافد‭ ‬كثيرة‭ ‬ومتشعّبة‭ ‬بشأن‭ ‬ثلاث‭ ‬قضايا‭ ‬أساسية‭: ‬برنامج‭ ‬إيران‭ ‬النووي،‭ ‬وبرنامج‭ ‬التسلّح‭ ‬الصاروخي،‭ ‬ونفوذ‭ ‬إيران‭ ‬الإقليمي‭ ‬الذي‭ ‬تستمدّه‭ ‬من‭ ‬علاقاتها‭ ‬المتميّزة‭ ‬بفصائل‭ ‬المقاومة‭ ‬المسلّحة‭ ‬في‭ ‬فلسطين،‭ ‬وبحزب‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬وبجماعة‭ ‬الحوثيين‭ ‬في‭ ‬اليمن،‭ ‬وبأحزاب‭ ‬وتيّارات‭ ‬موالية‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬العراق‭. ‬ولأنّ‭ ‬برنامج‭ ‬إيران‭ ‬النووي‭ ‬هو‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬يثير‭ ‬قلق‭ ‬إسرائيل،‭ ‬ترى‭ ‬الأخيرة‭ ‬أنّه‭ ‬يشكل‭ ‬تهديداً‭ ‬وجودياً‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليها،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬يستحيل‭ ‬التسامح‭ ‬معه‭ ‬أو‭ ‬غضّ‭ ‬الطرف‭ ‬عنه‭.‬

لذا‭ ‬سعت‭ ‬إسرائيل‭ ‬دائماً،‭ ‬لاسيّما‭ ‬عقب‭ ‬تولي‭ ‬بنيامين‭ ‬نتنياهو‭ ‬مقاليد‭ ‬الحكم،‭ ‬لا‭ ‬إلى‭ ‬عرقلة‭ ‬هذا‭ ‬البرنامج‭ ‬أو‭ ‬تحجيمه‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬أيضاً،‭ ‬إلى‭ ‬وقفه‭ ‬كلّياً‭ ‬بل‭ ‬وتدميره‭ ‬إن‭ ‬أمكن،‭ ‬ما‭ ‬يُفسّر‭ ‬اعتراض‭ ‬نتنياهو‭ ‬بشدّة‭ ‬على‭ ‬الاتفاق‭ ‬الذي‭ ‬أبرمته‭ ‬مجموعة‭ (‬5+1‭) ‬في‭ ‬عام‭ ‬2015‭ ‬مع‭ ‬إيران‭. ‬بل‭ ‬ذهب‭ ‬نتنياهو‭ ‬إلى‭ ‬حدّ‭ ‬مهاجمة‭ ‬الرئيس‭ ‬باراك‭ ‬أوباما‭ ‬علناً،‭ ‬في‭ ‬خطاب‭ ‬ألقاه‭ ‬في‭ ‬اجتماع‭ ‬مشترك‭ ‬للكونجرس‭ ‬بغرفتيه‭ (‬الشيوخ‭ ‬والنواب‭)‬،‭ ‬وراح‭ ‬يواصل‭ ‬ضغوطه‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬نجح‭ ‬في‭ ‬إقناع‭ ‬الرئيس‭ ‬دونالد‭ ‬ترامب‭ ‬بالانسحاب‭ ‬الأحادي‭ ‬منه‭ ‬عام‭ ‬2018‭. ‬

على‭ ‬صعيد‭ ‬آخر،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬نتنياهو‭ ‬سعيداً‭ ‬قط‭ ‬بالسياسة‭ ‬التي‭ ‬تبنّاها‭ ‬الرئيس‭ ‬جو‭ ‬بايدن‭ ‬تجاه‭ ‬إيران،‭ ‬والتي‭ ‬استهدفت‭ ‬إعادة‭ ‬الولايات‭ ‬المتّحدة‭ ‬إلى‭ ‬الالتزام‭ ‬باتفاق‭ ‬2015،‭ ‬والدخول‭ ‬معها‭ ‬في‭ ‬مفاوضات‭ ‬لهذا‭ ‬الغرض‭. ‬وليس‭ ‬من‭ ‬المستبعد‭ ‬أبداً‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬الضغوط‭ ‬التي‭ ‬مارسها‭ ‬نتنياهو‭ ‬على‭ ‬إدارة‭ ‬بايدن،‭ ‬عبر‭ ‬اللوبي‭ ‬الصهيوني‭ ‬القوي‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتّحدة،‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬الأسباب‭ ‬الأكثر‭ ‬أهمية‭ ‬التي‭ ‬أدت‭ ‬إلى‭ ‬تعثّر‭ ‬وجمود‭ ‬هذه‭ ‬المفاوضات،‭ ‬وحالت‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬دون‭ ‬عودة‭ ‬الولايات‭ ‬المتّحدة‭ ‬إلى‭ ‬الاتفاق‭. ‬

غير‭ ‬أنّ‭ ‬القول‭ ‬بمحورية‭ ‬ملف‭ ‬إيران‭ ‬النووي،‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬تنامي‭ ‬العلاقات‭ ‬الصراعية‭ ‬بين‭ ‬إيران‭ ‬وإسرائيل،‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أبداً‭ ‬التقليل‭ ‬من‭ ‬أهمّية‭ ‬الملفين‭ ‬الآخرين،‭ ‬أي‭ ‬الملفّ‭ ‬الخاص‭ ‬ببرنامج‭ ‬إيران‭ ‬للتسلح‭ ‬الصاروخي‭ ‬والملف‭ ‬الخاص‭ ‬بنفوذ‭ ‬إيران‭ ‬الإقليمي،‭ ‬وكلّها‭ ‬ملفات‭ ‬مترابطة‭ ‬ومتداخلة،‭ ‬بدليل‭ ‬أنّ‭ ‬إدارة‭ ‬بايدن‭ ‬حاولت‭ ‬إدخالهما‭ ‬في‭ ‬مفاوضات‭ ‬العودة‭ ‬الأمريكية‭ ‬إلى‭ ‬اتفاق‭ ‬2015،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬رفضته‭ ‬إيران‭ ‬رفضاً‭ ‬قاطعاً‭. ‬فقد‭ ‬حرصت‭ ‬إيران‭ ‬حرصاً‭ ‬شديداً،‭ ‬ليس‭ ‬على‭ ‬تحديث‭ ‬برنامجها‭ ‬الصاروخي‭ ‬إلى‭ ‬أقصى‭ ‬مدى‭ ‬ممكن‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬على‭ ‬تزويد‭ ‬حلفائها‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬وفلسطين‭ ‬واليمن‭ ‬والعراق‭ ‬بأنواع‭ ‬عديدة‭ ‬من‭ ‬الأسلحة‭ ‬الحديثة‭ ‬التي‭ ‬نجحت‭ ‬في‭ ‬تطويرها،‭ ‬أيضاً‭.‬

لقد‭ ‬تبنّت‭ ‬إسرائيل‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬إيران‭ ‬سياسة‭ ‬ببعدين‭ ‬رئيسيين‭. ‬يستهدف‭ ‬الأول‭ ‬تغيير‭ ‬النظام‭ ‬في‭ ‬إيران‭ ‬بالقوة،‭ ‬بالتعاون‭ ‬مع‭ ‬الولايات‭ ‬المتّحدة‭ ‬إن‭ ‬أمكن،‭ ‬أو‭ ‬بمفردها‭ ‬إذا‭ ‬لزم‭ ‬الأمر،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬توجيه‭ ‬ضربة‭ ‬عسكرية‭ ‬شاملة‭ ‬لجميع‭ ‬المنشآت‭ ‬النووية‭ ‬الإيرانية‭. ‬ويستهدف‭ ‬الثاني‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬تقويض‭ ‬ومحاربة‭ ‬النفوذ‭ ‬الإيراني‭ ‬المتغلغل‭ ‬في‭ ‬جوارها‭ ‬المباشر،‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬لبنان‭ ‬وسوريا‭ ‬وفلسطين،‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬توجيه‭ ‬ضربات‭ ‬إجهاضية‭ ‬مستمرة،‭ ‬ليس‭ ‬إلى‭ ‬وكلاء‭ ‬إيران‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬فقط،‭ ‬وإنما‭ ‬أيضاً‭ ‬للأفراد‭ ‬الإيرانيين‭ ‬الذين‭ ‬يقومون‭ ‬بمهام‭ ‬التدريب‭ ‬أو‭ ‬التسليح‭ ‬أو‭ ‬تقديم‭ ‬المشورة‭ ‬لهؤلاء‭ ‬الوكلاء‭. ‬وقد‭ ‬فعل‭ ‬نتنياهو‭ ‬كلّ‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬وسعه‭ ‬لإقناع‭ ‬الإدارات‭ ‬الأمريكية‭ ‬المتعاقبة‭ ‬بالمشاركة‭ ‬مع‭ ‬إسرائيل‭ ‬في‭ ‬توجيه‭ ‬ضربة‭ ‬قاصمة‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬تغيير‭ ‬النظام‭ ‬في‭ ‬إيران،‭ ‬ورغم‭ ‬فشله‭ ‬في‭ ‬تحقيق‭ ‬هذا‭ ‬الهدف‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬إلا‭ ‬أنّه‭ ‬لم‭ ‬يكف‭ ‬مطلقاً‭ ‬عن‭ ‬القيام‭ ‬بعمليات‭ ‬تخريب‭ ‬داخل‭ ‬إيران‭ ‬نفسها،‭ ‬شملت‭ ‬تعقّب‭ ‬وقتل‭ ‬العلماء‭ ‬النوويين،‭ ‬وشنّ‭ ‬هجمات‭ ‬سيبرانية،‭ ‬وربما‭ ‬العمل‭ ‬على‭ ‬إثارة‭ ‬الاضطرابات‭ ‬الداخلية‭ ‬في‭ ‬إيران‭.‬

كما‭ ‬شنّت‭ ‬إسرائيل،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬حملات‭ ‬عسكرية‭ ‬موجعة‭ ‬على‭ ‬حلفاء‭ ‬إيران‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬لاسيما‭ ‬حزب‭ ‬الله‭ ‬في‭ ‬لبنان،‭ ‬وكلّ‭ ‬من‭ ‬حركتي‭ ‬حماس‭ ‬والجهاد‭ ‬الإسلامي‭ ‬في‭ ‬قطاع‭ ‬غزّة‭. ‬وفي‭ ‬مواجهة‭ ‬هذه‭ ‬السياسة‭ ‬الإسرائيلية،‭ ‬اعتمدت‭ ‬إيران‭ ‬ما‭ ‬أطلقت‭ ‬عليه‭ ‬تسمية‭ ‬سياسة‭ ‬‮«‬الصبر‭ ‬الاستراتيجي‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬سياسة‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬محاولة‭ ‬تحجيم‭ ‬الصراع‭ ‬مع‭ ‬إسرائيل‭ ‬عند‭ ‬مستوياتٍ‭ ‬يمكن‭ ‬التحكم‭ ‬فيها،‭ ‬ولا‭ ‬مانع‭ ‬من‭ ‬القيام‭ ‬بعمليات‭ ‬تكتيكية‭ ‬للردّ‭ ‬على‭ ‬الاستفزازات‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬مباشرة‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬حلفائها‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬السماح‭ ‬لإسرائيل‭ ‬باستدراجها‭ ‬نحو‭ ‬مواجهة‭ ‬عسكرية‭ ‬مباشرة‭.‬

ويعود‭ ‬السبب‭ ‬في‭ ‬تبنّي‭ ‬إيران‭ ‬هذه‭ ‬السياسة‭ ‬إلى‭ ‬اعتقادها‭ ‬أنّ‭ ‬الوقت‭ ‬يعمل‭ ‬لصالحها،‭ ‬وأنّ‭ ‬مصالحها‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬تتطلّب‭ ‬العمل‭ ‬بأناة‭ ‬وصبر‭ ‬لاستكمال‭ ‬مقومات‭ ‬البناء‭ ‬الداخلي،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬ما‭ ‬يتصل‭ ‬منه‭ ‬بالبرنامجين‭ ‬النووي‭ ‬والصاروخي،‭ ‬مع‭ ‬التصدّي،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬للعقوبات‭ ‬الأمريكية‭. ‬

وقد‭ ‬استمر‭ ‬الحال‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬المنوال‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تعمد‭ ‬نتنياهو‭ ‬ضرب‭ ‬القنصلية‭ ‬الإيرانية‭ ‬في‭ ‬دمشق‭. ‬هنا،‭ ‬أدركت‭ ‬إيران‭ ‬أنّ‭ ‬إسرائيل‭ ‬ترى‭ ‬في‭ ‬سياسة‭ ‬‮«‬الصبر‭ ‬الاستراتيجي‮»‬‭ ‬علامة‭ ‬ضعف‭ ‬ترجّح‭ ‬أنّ‭ ‬تدفع‭ ‬إسرائيل‭ ‬إلى‭ ‬التمادي‭ ‬والاستمرار‭ ‬في‭ ‬التصعيد،‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬عليها‭ ‬أن‭ ‬تردّ‭ ‬لتثبيت‭ ‬قواعد‭ ‬الاشتباك‭ ‬السابقة‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬لتغييرها‭ ‬وإرساء‭ ‬قواعد‭ ‬جديدة‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬الردع‭ ‬الحقيقي‭ ‬والمتبادل‭.‬

رأت‭ ‬بعض‭ ‬التحليلات‭ ‬التي‭ ‬نُشرت‭ ‬عقب‭ ‬الهجوم‭ ‬الإيراني‭ ‬المباشر‭ ‬على‭ ‬إسرائيل‭ ‬فيه‭ ‬‮«‬مسرحية‭ ‬هزلية‮»‬،‭ ‬بدليل‭ ‬ضخامة‭ ‬الهجوم‭ ‬وضحالة‭ ‬الخسائر‭ ‬الناجمة‭ ‬عنه،‭ ‬غيرَ‭ ‬أنّ‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬التحليلات‭ ‬يقلل‭ ‬من‭ ‬تمحيص‭ ‬بعض‭ ‬الأمور‭ ‬وتأثيراتها‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬والجيوسياسية‭. ‬والأرجح‭ ‬أنّ‭ ‬إيران‭ ‬أرادت‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الضربة‭ ‬إيصال‭ ‬رسائل‭ ‬مفادها؛‭ ‬أنّها‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬كلّ‭ ‬مكان‭ ‬في‭ ‬الأراضي‭ ‬الفلسطينية‭ ‬المحتلة،‭ ‬وعلى‭ ‬إلحاق‭ ‬الأذى‭ ‬بإسرائيل،‭ ‬وبأنّها‭ ‬لا‭ ‬تخشى‭ ‬الحرب‭ ‬والمواجهة‭ ‬الشاملة،‭ ‬وتحرص‭ ‬على‭ ‬تجنّبها،‭ ‬لكنّها‭ ‬ستخوضها‭ ‬بكلّ‭ ‬عزم‭ ‬وإصرار‭ ‬إن‭ ‬فرضت‭ ‬عليها،‭ ‬خصوصاً‭ ‬أنّها‭ ‬وجّهت‭ ‬ضربتها‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬تواجه‭ ‬فيه‭ ‬إسرائيل‭ ‬مأزقاً‭ ‬يعكس‭ ‬هشاشتها‭ ‬الاستراتيجية‭. ‬

فإسرائيل‭ ‬فشلت‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬في‭ ‬منع‭ ‬‮«‬طوفان‭ ‬الأقصى‮»‬،‭ ‬وعجزت‭ ‬في‭ ‬مدى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ستة‭ ‬أشهر‭ ‬عن‭ ‬تدمير‭ ‬حركة‭ ‬‮«‬حماس‮»‬‭ ‬أو‭ ‬استعادة‭ ‬الأسرى‭ ‬أو‭ ‬إجبار‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬على‭ ‬مغادرة‭ ‬أرضهم‭. ‬وها‭ ‬هي‭ ‬تعجز‭ ‬اليوم‭ ‬عن‭ ‬التصدّي‭ ‬وحدها‭ ‬لهجوم‭ ‬إيراني‭ ‬محدود،‭ ‬نجح‭ ‬رغم‭ ‬كلّ‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬قواعدها‭ ‬العسكرية،‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬الأراضي‭ ‬الفلسطينية‭ ‬المحتلّة‭ ‬في‭ ‬1948،‭ ‬وتم‭ ‬استنفار‭ ‬كل‭ ‬أجهزة‭ ‬الدفاع‭ ‬الغربية‭ ‬وأنظمتها‭ ‬الموجودة‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬لصدّه،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الأنظمة‭ ‬الأمريكية‭ ‬والبريطانية‭ ‬والفرنسية،‭ ‬وكلّها‭ ‬عوامل‭ ‬تزيد‭ ‬من‭ ‬استحكام‭ ‬المأزق‭ ‬الاستراتيجي‭ ‬الذي‭ ‬تواجهه‭ ‬إسرائيل‭ ‬على‭ ‬مختلف‭ ‬الصُعُد‭. ‬فإذا‭ ‬أضفنا‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬تقدّم‭ ‬أنّ‭ ‬المجتمع‭ ‬الإسرائيلي،‭ ‬بما‭ ‬فيه‭ ‬نخبته‭ ‬السياسية،‭ ‬منقسم‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬حرب،‭ ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الحروب‭ ‬الإسرائيلية،‭ ‬لأدركنا‭ ‬أنّ‭ ‬كلّ‭ ‬الخيارات‭ ‬المتاحة‭ ‬أمام‭ ‬إسرائيل‭ ‬في‭ ‬اللحظة‭ ‬الراهنة‭ ‬تبدو‭ ‬سيئة‭. ‬فهي،‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬لا‭ ‬تستطيع‭ ‬تجاهل‭ ‬آثار‭ ‬الضربة‭ ‬الإيرانية،‭ ‬لأنّ‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬هذا‭ ‬التجاهل‭ ‬تعميق‭ ‬أزمتها‭ ‬الداخلية‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬قد‭ ‬تهدّد‭ ‬بسقوط‭ ‬حكومتها‭ ‬الحالية،‭ ‬وبدء‭ ‬مرحلة‭ ‬المحاسبة‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تطول‭ ‬الجميع‭. ‬وهي‭ ‬لم‭ ‬تستطع،‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى،‭ ‬أن‭ ‬تردّ‭ ‬بقوّة‭ ‬على‭ ‬الضربة‭ ‬الإيرانية،‭ ‬لأنّ‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬توسيع‭ ‬نطاق‭ ‬المواجهة‭ ‬وتحوّلها‭ ‬إلى‭ ‬حرب‭ ‬إقليمية‭ ‬شاملة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬ستسعى‭ ‬الإدارة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬التي‭ ‬تستعدّ‭ ‬لانتخابات‭ ‬رئاسية‭ ‬شديدة‭ ‬الصعوبة‭ ‬والحساسية،‭ ‬إلى‭ ‬تفاديه‭ ‬بكلّ‭ ‬الطرائق‭ ‬الممكنة‭.‬

أخلص‭ ‬مما‭ ‬تقدم‭ ‬إلى‭ ‬أنّ‭ ‬دخول‭ ‬إيران‭ ‬مباشرة‭ ‬على‭ ‬خطّ‭ ‬المواجهة‭ ‬المسلّحة‭ ‬مع‭ ‬إسرائيل،‭ ‬لأول‭ ‬مرّة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬البلدين،‭ ‬ستكون‭ ‬له‭ ‬تداعيات‭ ‬مرجحة‭ ‬على‭ ‬مسار‭ ‬الصراعات‭ ‬المتداخلة‭ ‬في‭ ‬المنطقة،‭ ‬سواء‭ ‬اكتفت‭ ‬إسرائيل‭ ‬بالردّ‭ ‬المحدود‭ ‬على‭ ‬الضربة‭ ‬الإيرانية‭ ‬أم‭ ‬لا،‭ ‬وسيؤدي‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬إلى‭ ‬تثبيت‭ ‬الاستقطاب‭ ‬القائم‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬حالياً،‭ ‬بين‭ ‬محور‭ ‬القوى‭ ‬التي‭ ‬لإيران‭ ‬تأثير‭ ‬فيها،‭ ‬وبين‭ ‬تحالف‭ ‬الهيمنة‭ ‬الأمريكي‭ ‬الإسرائيلي‭.‬

 

{ أستاذ‭ ‬العلوم‭ ‬السياسية‭ ‬

في‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا