إن مفاهيم التنمية الشاملة والتنمية الاقتصادية والتنمية المستدامة هي مفاهيم حديثة نوعا ما تبلورت في تسعينيات القرن العشرين نتيجة إدراك الترابط والتفاعل بين الأنشطة المختلفة وتأثيرها المتبادل في الأداء الاقتصادي. تتضمن هذه المفاهيم أهمية التعامل الشمولي مع التنمية. فمثلا ترى ماركو وعادلي (2015) في كتابهما بعنوان خلق منظومة الابتكار المحلية في الدول الناشئة، أن رفع مستوى المعيشة وجودة الحياة يتطلب العمل على تنمية القدرات الابتكارية والريادية والإنتاجية من ناحية، وتفاعل العوامل الاجتماعية والسياسية والبيئية والثقافية والفكرية من ناحية أخرى. وهذه النظرة الشمولية للتنمية أصبحت القاعدة التي بنيت عليها مؤشرات (SDG) أهداف التنمية المستدامة لبرامج الأمم المتحدة للتنمية (UNDP). وهذه العوامل (وفق ستيجلتز – في كتابه «قياس ما هو مهم للنمو وتقدم المجتمع» لها تأثير مباشر في ما يمكن تحقيقه في التنمية المستدامة وفاعلية قدرات الدولة وسلامة البيئة والأمن الوطني وتحقيق التوازن بين هذه الجوانب. وبالتالي فإن تصميم منظومة قياس وتقييم أداء ينبغي أن يعكس هذه العوامل في شموليتها وتفاعلها لدعم بناء القدرات وفق ما يتفق عليه المجتمع والدولة والقطاع الاقتصادي في تعريفهم للازدهار الاقتصادي والتقدم المجتمعي.
وضع رؤية 2050، وبالتالي منظومة قياس الأداء ينطلقان من خمس قضايا ذكرها سيدي جلالة الملك في الخطاب السامي في افتتاح مجلسي الشورى والنواب 2024. القضية الأولى تتعلق بضرورة تحليل وتقييم ما تحقق من رؤية 2030 وإجراء تحليل للوضع الحالي بتحدياته لاستكمال رؤية 2030. يجيب هذا التحليل عن أسئلة مهمة تكون أرضية لبناء رؤية 2050. القضية الثانية التي وردت في الخطاب السامي، تشير إلى أهمية وضع منظومة قياس وتقييم، والتوجيه «باعتماد مؤشرات الأداء التنافسية» التي تعكس نتائج ما تحقق من رؤية 2030. القضية الثالثة «ضبط التوازن بين متطلبات الانفتاح والتجديد، واشتراطات حماية أمننا الوطني في صيغته المتكاملة، وخصوصا ما يتعلق بأمن ثرواتنا الطبيعية وسبل استثمارها، لتأمين المستقبل المستدام بخيراته». القضية الرابعة «أهمية وحدة وتلاحم المجتمع البحريني والتمسك بهذه الوحدة الوطنية». القضية الخامسة تعزيز جهود العمل على إصدار رؤية 2050، ووضع «تصور متجدد لمستقبل بلادنا وأجيالها، للحفاظ على موقعها المتقدم كدولة ذات نهضة عصرية، تلتزم بقيم شريعتها الإسلامية، وبكل ما يوثق روابطها القومية، ويحصن هويتها الوطنية كعنصر أصيل للتنمية الشاملة والتربية الوطنية المبكرة».
كذلك من المهم الاستفادة من التجربة السابقة، وما ورد فيها من شروط مثل «اعتماد نهج الإصلاحات المتكاملة» التي تشمل جميع جوانب الحياة وأبعادها. والشرط الثاني أهمية متابعة تنفيذ الإصلاحات، حيث تقول رؤية 2030 إن: «السرعة التي نعمل بها ليست كافية لمجاراة الآخرين وليست كافية لتحقيق التميُّز».
من هذا المنطلق فإن وضع الرؤية يمر بثلاث مراحل مترابطة، المرحلة الأولى التحليل. ينتج عن هذه المرحلة تحديد التحديات والفرص وتضع تعريفات للمفاهيم الواردة في الغاية والأهداف، وتجيب عن أسئلة مثل ما هو النموذج الاقتصادي والإطار الفكري الذي أطر المقاربات الاقتصادية والاجتماعية وماذا كان تأثيره في سير ونتائج الرؤية وهل نحتاج إلى إعادة نظر في هذا النموذج؟ ما البيئة المؤسسية (القوانين والأنظمة والمنظمات الرسمية والأهلية والثقافة المجتمعية) وماذا كان تأثيرها في النتائج. وما هي الصعوبات في التعامل مع التحديات القائمة مثل خلق فرص عمل مجزية للبحرينيين وغيرها. والإجابة عن السؤال الجوهري ماذا يعني بالنسبة لنا الازدهار الاقتصادي وتقدم المجتمع وجودة الحياة؟.
المرحلة الثانية: مناقشة وتحديد الغاية من وضع رؤية 2050 والأهداف الرئيسية ومتطلباتنا المستقبلية بشمولية تطال الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية ويتم الاتفاق على القيم التي سنلتزم بها.
يتم خلال هذه المرحلة تصميم تصور متكامل يمثل معالجات جذرية تتعامل مع التحديات والصعوبات والتساؤلات بشكل شمولي مستفيدا من نتائج مرحلة التحليل. هذا التصميم يعني أن تكون السياسات والحلول متناغمة مع بعضها وتكمل بعضها.
المرحلة الثالثة: يتم فيها بناء القدرات الهيكلية والمؤسسية والإدارية للتنفيذ، وهذا يشمل الهيكل الإداري لرفع قدرات التنفيذ، وتطوير التشريعات لتحسين البيئة المناسبة لتحفيز الاقتصاد والمشاركة، وإجراء الدراسات الميدانية الدورية لمتابعة النتائج وتأثيرها في المجتمع. ومن أهم هذه القدرات الإدارية التي تسهم في التنفيذ هي منظومة قياس الأداء التي تنبثق من الغاية من وضع الرؤية والأهداف الرئيسية التي تتفق عليها الحكومة والمجتمع والقطاع الاقتصادي.
تعتبر منظومة قياس الأداء والتقييم أداة أساسية في تحقيق التنمية المستدامة وإدارة السياسات العامة، فوفقا لبويستر في كتابه «قياس الأداء في القطاع العام وغير الربحي»، فهي تعمل على تيسير تنفيذ الاستراتيجيات والرؤية بشكل عام ومتابعة نتائجها وتأثيرها في المجتمع وتعزيز الشفافية وتحسين الأداء. ومن بين الوظائف الرئيسية لهذه المنظومة المساعدة في وضع مستهدفات واضحة وقابلة للقياس والتقييم تعبر عن النتائج والتأثير المرجويين في المجتمع والدولة والاقتصاد. تسهم المنظومة في تحديد وجمع بيانات كمية ونوعية تيسر عملية تحليل فعالية السياسات والبرامج ومعرفة الفجوة بين النتائج والمأمول. كما أنها تجعل المساءلة عن النتائج واضحة ومبنية على أسس يتم الاتفاق عليها مسبقا بين القيادات والتنفيذيين. بالإضافة إلى ذلك فإنها تقنن تخصيص الموارد وتوجيهها وفق متطلبات النتائج. كذلك تقدم المنظومة توصيات مبنية على بيانات واضحة لتحسين السياسات المستقبلية مما يسهم في تحقيق أهداف الرؤية بشكل أكثر فعالية. للقيام بهذه الوظائف لا بد أن يتم وضعها وفق منهجية شمولية تنبثق من الرؤية والغاية الرئيسية لها، وتأخذ في الاعتبار أوجه الأداء المختلفة والمصالح المتعددة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك