لم يكن الناخبون الأمريكيون العرب والمسلمون هم من تسببوا بهزيمة الديمقراطيين في الانتخابات الأمريكية وإزاحتهم من مواقع السلطة ومن مناصبهم القيادية، ولم يكن الناخبون الأمريكيون العرب والمسلمون هم من كلفوا كامالا هاريس خسارة المكتب البيضاوي. لقد أرسل الناخبون الأمريكيون العرب والمسلمون فقط رسالة قوية مفادها أن فلسطين مهمة، ليس فقط للعرب والمسلمين، بل للعديد من الأمريكيين أيضًا.
لقد كان الديمقراطيون هم من تسبب لأنفسهم بتلك الهزيمة الانتخابية المدوية. لقد كانت هزيمتهم المهينة في الخامس من شهر نوفمبر ترجع إلى حد كبير إلى دورهم الذي لا يمكن إنكاره في الحرب الإسرائيلية والإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
وقد عبر بيتر بينارت عن هذا الأمر على أفضل وجه في مقالته الافتتاحية التي نشرها في صحيفة نيويورك تايمز في السابع من شهر نوفمبر الجاري، تحت عنوان «تجاهل الديمقراطيون غزة وأسقطوا حزبهم».
ووفقاً لبينارت، فإن «مذبحة إسرائيل وتجويعها للفلسطينيين – بتمويل من دافعي الضرائب الأمريكيين وبثها مباشرة على وسائل التواصل الاجتماعي»، «أثارت واحدة من أكبر الزيادات في النشاط التقدمي منذ جيل واحد». يشير الكاتب في مقالته إلى أن جوهر هذا النشاط كان «الأمريكيين السود والشباب».
لا يمكن إنكار أنه للمرة الأولى في تاريخ الانتخابات الأمريكية، أصبحت فلسطين قضية سياسية أمريكية داخلية – وهو كابوس حقيقي بالنسبة لأولئك الذين جاهدوا من أجل الحفاظ على السياسة الخارجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط باعتبارها مجالاً إسرائيليا حصريا.
وبصرف النظر عن الناخبين العرب والناخبين السود والناخبين من الأقليات الأخرى الذين أعطوا الأولوية لفلسطين، فقد شعر العديد من الأمريكيين البيض بنفس الشعور. ولا شك أن هذا الأمر بالغ الأهمية لأنه يؤكد أن الناخبين الأمريكيين أصبحوا يتحدون نموذج سياسات الهوية، ويفكرون الآن في الصراعات والقيم والأخلاق المشتركة.
وأشار تقرير نشرته صحيفة «إندبندنت» البريطانية إلى أن «الديمقراطيين لم يعودوا قادرين على الاعتماد على الناخبين الشباب لتعزيز الأرقام، حيث حصلت هاريس على أدنى دعم بين الناخبين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاما في هذا القرن». ومع إدراكهم للدعم القوي نسبياً الذي تحظى به فلسطين بين الشباب الأمريكي، فإن لدى الساسة الأمريكيين الكثير مما يدعوهم إلى القلق في الانتخابات المقبلة.
نحن نعلم بالفعل أن الدعم لفلسطين قوي للغاية بين الديمقراطيين الشباب. فقد أشار استطلاع أجرته مؤسسة غالوب في شهر مارس 2023 إلى أن «تعاطف الديمقراطيين مع الفلسطينيين أصبح الآن يمثل أكثر من الإسرائيليين، 49% مقابل 38%»، للمرة الأولى.
والأمر الأكثر إثارة للدهشة هو أن جمهور الناخبين الديمقراطيين في الولايات المتحدة الأمريكية أكثر تأييدًا لفلسطين من إسرائيل. ووفقاً لاستطلاع للرأي أجراه مركز بيو للأبحاث في شهر إبريل الماضي، فإن إجمالي الشباب الأمريكيين «أكثر ميلاً للتعاطف مع الشعب الفلسطيني من الشعب الإسرائيلي». وفي حين أن ثلث البالغين تحت سن الثلاثين يتعاطفون «كلياً أو معظمهم» مع الفلسطينيين، فإن 14% فقط يتعاطفون مع الإسرائيليين.
في الوقت الحالي، لا يبدو أن هذه الأرقام مهمة بالنسبة للديمقراطيين في الولايات المتحدة الأمريكية الذين استمروا في اعتبار أصوات الشباب والأقليات الأخرى أمرًا مفروغًا منه. لقد ارتكبوا خطأ فادحا.
لقد لعبت إدارة الرئيس جو بايدن دورًا محوريا في تمويل واستدامة آلة الحرب الإسرائيلية، وبالتالي تسهيل الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة. وقد انتبه الملايين من الأمريكيين إلى ذلك وتصرفوا بناءً على شعورهم بالغضب الجماعي لمعاقبة الديمقراطيين على ما فعلوه بالشعب الفلسطيني.
وفقًا لتقرير تم إعداده لمشروع تكاليف الحرب بجامعة براون، منحت إدارة بايدن لإسرائيل رقمًا قياسيًا قدره 17,9 مليار دولار على الأقل من المساعدات العسكرية لإسرائيل في السنة الأولى من الحرب.
بالإضافة إلى ذلك، وفقًا لتقرير نشرته صحيفة ProPublica الاستقصائية غير الربحية في يوم4 أكتوبر، فإن «الولايات المتحدة الأمريكية قد شحنت أكثر من 50 ألف طن من الأسلحة» إلى إسرائيل منذ يوم 7 أكتوبر2023.
وبعد ساعات فقط من إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وقعت وزارة الدفاع الإسرائيلية صفقة «للحصول على 25 طائرة مقاتلة من طراز F-15IA من شركة بوينج الأمريكية مقابل 5.2 مليارات دولار، مع خيار الحصول على 25 أخرى»، وفقًا لموقع Defense News. وبعبارة أخرى، لا يزال بايدن غير نادم على سياساته.
لقد ظل بايدن وهاريس وآخرون يحرفون المنطق ويلوون عنقه لتبرير دعمهم لإسرائيل بأي طريقة يريدونها. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن إدارتهم لعبت دورًا أساسيا في الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة. ولهذا السبب، فقد عوقبوا على النحو الواجب والمستحق من قبل الناخبين الأمريكيين.
وعلى الرغم من النشوة التي يشعر بها العديد من أنصار فلسطين في الولايات المتحدة الأمريكية، فلا ينبغي لنا أن نحمل أي أوهام. لن يكون الرئيس المنتخب دونالد ترامب ولا حاشيته من السياسيين اليمينيين منقذين لفلسطين.
وعلينا أن نتذكر أن ولاية ترامب الأولى في منصبه هي التي مهدت الطريق للتهميش الكامل للفلسطينيين. لقد فعل ذلك من خلال منح إسرائيل السيادة على القدس الشرقية المحتلة، والاعتراف بشرعية المستوطنات غير القانونية، وشن حرب مالية ضد الفلسطينيين، ومحاولة تدمير وكالة الأمم المتحدة للاجئين، الأونروا، من بين عدة إجراءات أخرى اتخذتها إدارته.
وإذا عاد الرئيس المنتخب دونالد ترامب إلى سياساته التدميرية القديمة في فلسطين، فمن المؤكد أن حرباً أخرى ستبدأ. هذا يعني أن المعسكر المؤيد لفلسطين، الذي نجح في تحويل التضامن إلى عمل سياسي حاسم، لا ينبغي له أن ينتظر الإدارة الأمريكية الجديدة لتتبنى خطاً سياسياً أكثر عقلانية بشأن فلسطين. وإذا حكمنا من خلال تاريخ الدعم الجمهوري لإسرائيل، فلا ينبغي لنا أن نتوقع مثل هذا الشعور أو التغيير.
وبالتالي، فقد حان الوقت للبناء على التضامن القائم بين كافة المجموعات الأمريكية التي صوتت ضد الإبادة الجماعية في الانتخابات الأخيرة. هذه هي الفرصة المثالية لترجمة الأصوات إلى عمل مستمر وضغط حتى يتسنى لجميع جوانب حكومة الولايات المتحدة الأمريكية أن تسمع وتستجيب لهتافات «وقف إطلاق النار الآن» و«فلسطين حرة حرة» التي تصم الآذان.
ولكن هذه المرة، كانت هذه الهتافات مدعومة بأدلة قوية تؤكد مرة أخرى أن الناخبين الأمريكيين قادرون على زعزعة استقرار النموذج السياسي برمته، كما فعلوا في الخامس من نوفمبر 2024.
{ أكاديمي وكاتب فلسطيني
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك