ذكرت مجلة الإيكونوميست أن أوامر الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت تمثل كارثة دبلوماسية لإسرائيل، كما أنها «وصمة عار قاسية» للزعيم الإسرائيلي، كما كتبت صحيفة الغارديان، فيما قال آخرون إن الأمر بمثابة «ضربة كبيرة».
لكن المصطلح الذي يبدو أن الكثيرين يتفقون عليه هو أن أوامر الاعتقال تمثل زلزالا، على الرغم من أن الكثيرين يشككون في أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو سيمثل بالفعل في المحكمة الجنائية الدولية.
إن المعسكر المؤيد لفلسطين، والذي يمثل في الآونة الأخيرة أغلبية البشرية، ممزق بين عدم التصديق، والشكوك، والتفاؤل. لقد تبين أن النظام الدولي لديه نبض، رغم أنه ضعيف، ولكنه كاف لإحياء الأمل في أن المساءلة القانونية والأخلاقية ما زالت ممكنة.
هذا المزيج من المشاعر واللغة القوية هو انعكاس لعدة تجارب مهمة ومترابطة نوجزها في الآتي – أولا: الإبادة غير المسبوقة لشعب بأكمله التي تنفذها إسرائيل حاليًا ضد الفلسطينيين في غزة؛ ثانياً، الفشل الذريع للمجتمع الدولي في وقف الإبادة الجماعية المروعة في القطاع؛ وأخيراً، حقيقة أن النظام القانوني الدولي فشل تاريخيا في مساءلة إسرائيل، أو أي من حلفاء الغرب في أي مكان، أمام القانون الدولي.
لقد مثل ما حدث زلزالا حقيقيا ذلك أنها المرة الأولى في تاريخ المحكمة الجنائية الدولية التي تتم فيها محاسبة زعيم مؤيد للغرب على جرائم الحرب. في الواقع، تاريخيًا، يبدو أن الغالبية العظمى من مذكرات الاعتقال والاحتجاز الفعلي لمجرمي الحرب المتهمين تستهدف الجنوب العالمي، وإفريقيا بشكل خاص.
يجب القول في هذا الصدد إن إسرائيل ليست دولة «غربية» عادية. لقد كانت الحركة الصهيونية العالمية اختراعاً استعمارياً غربياً، ولم يكن إنشاء دولة إسرائيل ممكناً لولا الدعم الغربي المتشدد دون عوائق.
ومنذ قيامها على أنقاض فلسطين التاريخية عام 1948، لعبت إسرائيل دور القلعة الاستعمارية الغربية في منطقة الشرق الأوسط. لقد تم تصميم الخطاب السياسي الإسرائيلي برمته ووضعه ضمن الأولويات الغربية والقيم المفترضة: الحضارة والديمقراطية والتنوير وحقوق الإنسان وما شابه ذلك.
ومع مرور الوقت، أصبحت إسرائيل مشروعاً أمريكياً إلى حد كبير، يتبناه الليبراليون والمحافظون المتدينون الأمريكيون على حد سواء.
وكانت الحشود الدينية في الولايات المتحدة مدفوعة بالفكرة الإنجيلية القائلة إن «من يبارك إسرائيل يتبارك». كما أبقى الليبراليون إسرائيل ضمن الخطاب الروحي، على الرغم من أنهم فضلوا بشكل غير متناسب تصنيف إسرائيل على أنها «الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط»، وشددوا باستمرار على «العلاقة الخاصة»، و«الرابطة غير القابلة للكسر» وغير ذلك من الأوصاف الأخرى.
وبالتالي، لن يكون من المبالغة القول بأن إدانة المحكمة الجنائية الدولية لنتنياهو، كممثل للمؤسسة السياسية في إسرائيل، وجالانت، كزعيم للطبقة العسكرية، هي أيضاً إدانة للولايات المتحدة الأمريكية.
خلال العدوان على غزة ووفقا لموقع الأخبار الاستقصائية ProPublica، في السنة الأولى من الحرب، شحنت الولايات المتحدة أكثر من 50 ألف طن من الأسلحة إلى إسرائيل.
إن وسائل الإعلام والصحفيين الأمريكيين البارزين مذنبون أيضًا في تلك الإبادة الجماعية. لقد رفعوا من شأن مجرمي الحرب نتنياهو وغالانت، إلى جانب قادة سياسيين وعسكريين إسرائيليين آخرين، كما لو كانوا المدافعين عن «العالم المتحضر» ضد «البرابرة».
لقد صورت الأوساط الإعلامية المحافظة مجرمي الحرب نتنياهو وغالانت وكأنهما أنبياء يقومون بعمل الرب ضد الوثنيين المفترضين في الجنوب.
لقد وجهت إليهما المحكمة الجنائية الدولية اتهامات أخلاقية، وألحقت بهما «وصمة عار قاسية»، لا يمكن القضاء عليها أبدًا.
عندما تقدم كريم خان، رئيس الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية، بطلب إصدار أوامر اعتقال في شهر مايو الماضي، كانت الشكوك تحيط بالكثيرين، وكان ذلك مبرراً. وشعر الإسرائيليون أن بلادهم تحتاج إلى الدعم اللازم لعدم السماح بمثل هذه المذكرات في المقام الأول.
لقد مر الإسرائيليون في هذا الصدد بمحاولات سابقة، بما في ذلك القضية التي رفعت أمام المحكمة البلجيكية حيث حاول ضحايا الوحشية الإسرائيلية في لبنان محاسبة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرييل شارون على مذبحة صبرا وشاتيلا.
ولم يتم إسقاط القضية في عام 2003 فحسب، بل تعرضت بلجيكا لضغوط كبيرة ومكثفة من الولايات المتحدة الأمريكية لتغيير قوانينها بحيث لا تشمل الولاية القضائية العالمية في حالة الإبادة الجماعية.
ولم يكن الأمريكيون أيضًا قلقين للغاية، حيث كانوا على استعداد لمعاقبة قضاة المحكمة الجنائية الدولية، وتشويه سمعة كريم خان نفسه، ووفقًا لما نشره السيناتور الأمريكي توم كوتون مؤخرًا على وسائل التواصل الاجتماعي، فإنهم على استعداد «لاجتياح لاهاي».
والحقيقة أن هذه ليست المرة الأولى التي يستعرض فيها الأمريكيون، الذين لم يوقعوا على نظام روما الأساسي، وبالتالي ليسوا أعضاء في المحكمة الجنائية الدولية، عضلاتهم ضد أولئك الذين حاولوا فقط فرض القانون الدولي والانتصار لقيم العدالة.
وفي شهر سبتمبر 2020، فرضت الحكومة الأمريكية عقوبات على المدعية العامة آنذاك فاتو بنسودا ومسؤول كبير آخر هو فاكيسو موتشوتشوكو.
وحتى أولئك الذين أرادوا تكريس وإنفاذ المساءلة عن الإبادة الجماعية الإسرائيلية كانوا موضع شك، خاصة وأن الحكومات الغربية المؤيدة لإسرائيل، مثل الحكومة الألمانية، عملت على منع إصدار أوامر الاعتقال.
وقد ساهم التأخير غير المعقول في الإجراءات في زيادة الشكوك، خاصة وأن كريم خان نفسه تم تقديمه فجأة للمحاكمة بتهمة «سوء السلوك الجنسي» المفترض.
ومع ذلك، بعد كل هذا، صدرت مذكرات الاعتقال في 21 نوفمبر، واتهمت نتنياهو وجالانت بارتكاب «جرائم حرب» و«جرائم ضد الإنسانية» – والجرائم الأخرى التي يعاقب عليها القانون ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية هي الإبادة الجماعية والعدوان.
وبالنظر إلى أن أعلى محكمة في العالم، محكمة العدل الدولية، قد وجدت بالفعل أنه من المعقول أن أفعال إسرائيل يمكن أن ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية وهي تحقق حاليا في القضية، فإن إسرائيل، كدولة، وكبار القادة الإسرائيليين، فجأة، وبجدارة، فعلوا ذلك وأصبحوا أعداء الإنسانية.
ورغم أنه من الصواب والمشروع أن نقول إن الأمر الأكثر أهمية هو النتيجة الملموسة لهذه القضايا –أي إنهاء الإبادة الجماعية ومحاسبة مجرمي الحرب الإسرائيليين– فلا ينبغي لنا أن نفوت المعنى الأعظم لهذه الأحداث المزلزلة.
إن محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية هما في الأساس مؤسستان غربيتان تم إنشاؤهما لمراقبة العالم من خلال تعزيز المعايير المزدوجة الناتجة عن النظام الدولي الذي سيطر عليه الغرب بعد الحرب العالمية الثانية.
إن محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية تمثلان المعادل القانوني لاتفاقية بريتون وودز، التي نظمت النظام النقدي الدولي لخدمة المصالح الغربية للولايات المتحدة. ورغم أنهما، من الناحية النظرية، دافعتا عن قيم جديرة بالثناء عالميًا، إلا أنهما في الممارسة العملية كانتا مجرد أداتين للنظام الغربي لتكريس السيطرة والهيمنة.
كان العالم لسنوات عديدة يعيش مخاض التغيير الواضح الذي لا رجعة فيه، حيث كانت قوى جديدة تصعد فيما كانت قوى أخرى تأفل ويتقلص نفوذها. لم تكن الاضطرابات السياسية في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا سوى انعكاس للصراع الداخلي داخل الطبقات الحاكمة في الغرب.
وكان الصعود المذهل للصين، والحرب في أوروبا، والمقاومة المتنامية في منطقة الشرق الأوسط، نتائج ومسرعات لهذا التغيير.
ومن هنا جاءت الدعوة المستمرة لإجراء إصلاحات في النظام الدولي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى يعكس بطريقة أكثر إنصافاً الحقائق العالمية الجديدة. على الرغم من المقاومة الأمريكية الغربية للتغيير، استمرت التشكيلات الجيوسياسية الجديدة في الظهور، بغض النظر عن ذلك.
تمثل الإبادة الجماعية في قطاع غزة لحظة فاصلة في هذه الديناميكيات العالمية التي شهدنا تداعياتها المتسارعة، وهو ما انعكس على لغة كريم خان عندما طلب إصدار مذكرات الاعتقال، مؤكداً مصداقية المحكمة.
وقال في مقابلة حصرية مع شبكة سي إن إن في 20 مايو 2024: «لهذا السبب لدينا محكمة. الأمر يتعلق بالتطبيق المتساوي للقانون. ولا يوجد شعب أفضل من آخر. لا يوجد أشخاص قديسون في أي مكان».
إن التركيز على المصداقية هنا هو تتويج للخسارة الواضحة للمصداقية على كل الجبهات. وهذا لا ينبغي أن يكون مفاجئا، إذ كان الغرب، الذي نصب نفسه بطلاً لحقوق الإنسان، والكيان السياسي ذاته الذي دافع عن الإبادة الجماعية الإسرائيلية وأيدها ودعمها.
وفي حين قد يرغب المرء في الاعتقاد بأن أوامر الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية صدرت حصرياً من أجل ضحايا الإبادة الجماعية الإسرائيلية، فإن الكثير من الأدلة تشير إلى أن هذه الخطوة غير المتوقعة كانت محاولة يائسة من الغرب لإنقاذ أي مصداقية قليلة كان قد حافظ عليها حتى تلك اللحظة.
لقد حافظت حكومة الولايات المتحدة، التي تنتهك حقوق الإنسان من دون أن تتوب عن ذلك، على موقفها القوي في الدفاع عن إسرائيل، فراحت تشوه المحكمة الجنائية الدولية بسبب أوامر الاعتقال، بدلا من أن توجه سهامها إلى مجرمي الحرب الإسرائيليين الذين ارتكبوا جرائم الإبادة الجماعية التي ستظل تمثل وصمة على جبين الإنسانية، وعارا يلاحق الغرب.
ومع ذلك، كان الصراع في أوروبا أكثر وضوحا، وهو ما انعكس في موقف ألمانيا، التي قالت إنها «ستفحص بعناية» أوامر الاعتقال، ولكن «من الصعب أن نتصور أننا سنقوم باعتقالات على هذا الأساس».
لا تزال شعوب العالم تأمل أن تؤدي تحولات القوى العالمية في نهاية المطاف إلى إنقاذ القانون الدولي من نفاق الغرب وانتهازيته. ولكن ما هو واضح الآن هو أن الصراع في الغرب سوف يكتسب المزيد من الزخم. فهل يكون أولئك الذين أوجدوا الخطر الصهيوني الإسرائيلي هم أنفسهم الذين سيهدمونه؟ يظل هذا الأمر محل شك كبير.
{ أكاديمي وكاتب فلسطيني
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك