العدد : ١٧٠٦٨ - الأحد ١٥ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٤ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٦٨ - الأحد ١٥ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٤ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

حكاية امرأة.. ليست خيالية

بقلم: د. زكريا الخنجي

الأحد ٠٨ ديسمبر ٢٠٢٤ - 02:00

قالت‭ ‬لي‭ ‬زميلة‭ ‬مدربة‭ ‬واختصاصية‭ ‬اجتماعية‭ ‬من‭ ‬دولة‭ ‬أوروبية‭ ‬وتدير‭ ‬مركزا‭ ‬اجتماعيا،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬عرفت‭ ‬أني‭ ‬أكتب‭ ‬في‭ ‬الجريدة‭ ‬وقد‭ ‬أصدرت‭ ‬بعضًا‭ ‬من‭ ‬الكتب‭: ‬سوف‭ ‬أروي‭ ‬لك‭ ‬حكاية،‭ ‬قد‭ ‬تظنها‭ ‬من‭ ‬وحي‭ ‬الخيال،‭ ‬ولكنها‭ ‬حقيقية‭ ‬وواقعية‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬أنت‭ ‬تجلس‭ ‬أمامي‭ ‬الآن‭.‬

قلت‭: ‬أين‭ ‬وقعت؟

قالت‭: ‬عندنا‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ (‬وذكرت‭ ‬اسم‭ ‬المدينة،‭ ‬والمكان‭ ‬والزمان‭).‬

قلت‭: ‬إذن‭ ‬قولي‭.‬

قالت‭: ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬اتصلت‭ ‬بي‭ ‬صديقة،‭ ‬وقالت‭ ‬لي‭ ‬إنها‭ ‬تعرف‭ ‬امرأة‭ ‬تحتاج‭ ‬إلى‭ ‬رعاية‭ ‬اجتماعية‭ ‬خاصة،‭ ‬فهي‭ ‬تعاني‭ ‬من‭ ‬مر‭ ‬الحياة،‭ ‬فالمشاكل‭ ‬أحاطتها‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬بعيد‭ ‬ولا‭ ‬تعرف‭ ‬الفكاك‭ ‬منها،‭ ‬فهل‭ ‬يمكن‭ ‬مساعدتها؟‭ ‬وافقت‭ ‬على‭ ‬طلبها،‭ ‬وطلبت‭ ‬منها‭ ‬إحضارها‭ ‬إلى‭ ‬المركز،‭ ‬حتى‭ ‬يتم‭ ‬دراسة‭ ‬حالتها‭ ‬وعمل‭ ‬الإجراءات‭ ‬الخاصة‭ ‬بها،‭ ‬ومساعدتها‭ ‬بأي‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬المساعدة‭.‬

بعد‭ ‬عدة‭ ‬أيام‭ ‬جاءت‭ ‬صديقتي،‭ ‬ومعها‭ ‬امرأة‭ ‬ليست‭ ‬كبيرة‭ ‬في‭ ‬السن،‭ ‬إذ‭ ‬يبدو‭ ‬عليها‭ ‬أنها‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬الخمسينات،‭ ‬وكانت‭ ‬تجر‭ ‬خلفها‭ ‬فتاتين،‭ ‬واحدة‭ ‬في‭ ‬حوالي‭ ‬الخامسة‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ‬والأخرى‭ ‬في‭ ‬الخامسة‭ ‬عشرة‭ ‬أو‭ ‬أكبر‭ ‬قليلاً‭. ‬قامت‭ ‬إحدى‭ ‬الاختصاصيات‭ ‬بإدخالها‭ ‬غرفة‭ ‬الاستراحة،‭ ‬تم‭ ‬تقديم‭ ‬الطعام‭ ‬والشراب‭ ‬لها‭ ‬وللفتاتين،‭ ‬وحتى‭ ‬تهدأ‭ ‬من‭ ‬عناء‭ ‬الحياة‭. ‬

قالت‭ ‬صديقتي‭: ‬أنا‭ ‬أريدك‭ ‬أنت‭ ‬أن‭ ‬تقومي‭ ‬بدراسة‭ ‬حالتها،‭ ‬لأنها‭ ‬حالة‭ ‬تختلف‭ ‬عن‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الحالات‭ ‬التي‭ ‬تعرفين،‭ ‬إنها‭ ‬حالة‭ ‬غريبة‭ ‬وخيالية‭. ‬فوافقت‭ ‬أن‭ ‬أقوم‭ ‬بنفسي‭ ‬بدراسة‭ ‬حالتها‭. ‬

بعد‭ ‬أن‭ ‬استراحت‭ ‬المرأة‭ ‬وابنتيها‭ ‬تم‭ ‬تسجيلها‭ ‬في‭ ‬السجلات،‭ ‬وتقديم‭ ‬غرفة‭ ‬لها،‭ ‬وفي‭ ‬الحقيقة‭ ‬لم‭ ‬أتمكن‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬من‭ ‬مجالستها‭ ‬حتى‭ ‬أتعرف‭ ‬عليها‭ ‬وعلى‭ ‬حكايتها،‭ ‬وذلك‭ ‬لأني‭ ‬كنت‭ ‬مشغولة‭ ‬ببعض‭ ‬الأعمال‭ ‬المكتبية،‭ ‬لذلك‭ ‬أرجأتها‭ ‬إلى‭ ‬وقت‭ ‬آخر،‭ ‬وعلى‭ ‬هذا‭ ‬الأساس‭ ‬قدمت‭ ‬لها‭ ‬غرفة‭ ‬لتنام‭ ‬وتستريح‭ ‬وتستحم‭ ‬هي‭ ‬وبناتها‭ ‬حتى‭ ‬أنتهي‭ ‬من‭ ‬مهامي‭. ‬استقرت‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬الغرفة‭ ‬وهدأت‭ ‬نفوسهن،‭ ‬وأصبحن‭ ‬يتأقلمن‭ ‬على‭ ‬الوضع‭ ‬نوعًا‭ ‬ما‭.‬

وبعد‭ ‬حوالي‭ ‬يومين،‭ ‬استقبلت‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬مكتبي‭ ‬وكانت‭ ‬تصاحبني‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬اختصاصيات‭ ‬المركز،‭ ‬فقدمت‭ ‬نفسي‭ ‬لها،‭ ‬وعندما‭ ‬عرفتني‭ ‬أني‭ ‬صاحبت‭ ‬المركز‭ ‬حاولت‭ ‬تقبيلي‭ ‬وضمي،‭ ‬وهي‭ ‬تبكي،‭ ‬وتكرر‭ ‬كلمات‭ ‬الامتنان‭ ‬والحب‭ ‬وما‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬وبعدما‭ ‬هدأت‭ ‬طلبت‭ ‬منها‭ ‬أن‭ ‬تروي‭ ‬حياتها‭ ‬حتى‭ ‬نتمكن‭ ‬من‭ ‬تقديم‭ ‬خدماتنا‭ ‬بأفضل‭ ‬صورة‭ ‬ممكنة،‭ ‬قالت‭:‬

قدمت‭ ‬من‭ ‬الريف‭ ‬منذ‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬العمل‭ ‬والدراسة،‭ ‬وأنا‭ ‬من‭ ‬أسرة‭ ‬متعففة‭ ‬مكافحة،‭ ‬نحاول‭ ‬أن‭ ‬نعيش‭ ‬بجهودنا،‭ ‬وكذلك‭ ‬فنحن‭ ‬من‭ ‬أسرة‭ ‬متدينة‭ ‬نوعًا‭ ‬ما،‭ ‬تقدمت‭ ‬للجامعة‭ (‬الفلانية‭) ‬فتم‭ ‬الموافقة‭ ‬على‭ ‬طلبي،‭ ‬وعملت‭ ‬في‭ ‬مطعم‭ (..) ‬في‭ ‬وظيفة‭ ‬غسل‭ ‬الصحون‭ ‬والأطباق،‭ ‬ومن‭ ‬الراتب‭ ‬القليل‭ ‬جدًا‭ ‬كنت‭ ‬أدفع‭ ‬للكلية‭ ‬والسكن،‭ ‬وأما‭ ‬الوجبات‭ ‬فكنت‭ ‬آكل‭ ‬من‭ ‬بقايا‭ ‬الأكل‭ ‬الموجود‭ ‬في‭ ‬الأطباق‭ ‬التي‭ ‬أقوم‭ ‬بغسلها،‭ ‬أجمعها‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬واحد‭ ‬وأتناول‭ ‬بعضها‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬تناوله‭. ‬استمر‭ ‬الوضع‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬المنوال‭ ‬مدة‭ ‬سنة‭ ‬تقريبًا،‭ ‬وأنا‭ ‬أعيش‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الضنك،‭ ‬وكنت‭ ‬أحلم‭ ‬بأنه‭ ‬سوف‭ ‬يأتي‭ ‬اليوم‭ ‬الذي‭ ‬سأتخرج‭ ‬فيه‭ ‬وأعيش‭ ‬أفضل‭. ‬

ذات‭ ‬يوم‭ ‬دخل‭ ‬المطعم‭ ‬شاب،‭ ‬جميل‭ ‬ووسيم،‭ ‬وعندما‭ ‬رآني‭ ‬طلب‭ ‬من‭ ‬مشرف‭ ‬المطعم‭ ‬أن‭ ‬أقدم‭ ‬له‭ ‬أنا‭ ‬وجبة‭ ‬الطعام،‭ ‬فأصر‭ ‬المشرف‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬أقوم‭ ‬أنا‭ ‬بواجب‭ ‬الضيافة‭ ‬والخدمة،‭ ‬وبالفعل‭ ‬قمت‭ ‬بالواجب‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬أعرف،‭ ‬وأثناء‭ ‬ذلك،‭ ‬كنت‭ ‬أقف‭ ‬بعيدة‭ ‬من‭ ‬الشاب‭ ‬والمشرف‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يتحدث‭ ‬مع‭ ‬الشاب،‭ ‬وهو‭ ‬مطأطأ‭ ‬الرأس‭ ‬والشاب‭ ‬يضحك‭ ‬ويبتسم،‭ ‬وعندما‭ ‬انتهى‭ ‬أشار‭ ‬إليّ‭ ‬فذهبت‭ ‬فقدم‭ ‬لي‭ ‬بعض‭ ‬المال،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬الرشوة،‭ ‬وابتسم‭ ‬ثم‭ ‬غادر‭. ‬ولكن‭ ‬تكررت‭ ‬زيارات‭ ‬الشاب‭ ‬مرات‭ ‬ومرات،‭ ‬وذات‭ ‬يوم‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬مشرف‭ ‬المطعم‭: ‬أتعرفين‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الشاب؟‭ ‬فقلت‭ ‬له‭: ‬لا،‭ ‬ولكنه‭ ‬رجل‭ ‬نبيل‭ ‬وخاصة‭ ‬أنه‭ ‬يمنحني‭ ‬بقشيشا‭ ‬جيدا‭. ‬قال‭: ‬إنه‭ ‬صاحب‭ ‬هذا‭ ‬المطعم‭ ‬وسلسلة‭ ‬طويلة‭ ‬من‭ ‬المطاعم،‭ ‬فهو‭ ‬ثري‭ ‬جدًا‭.‬

توطدت‭ ‬علاقتي‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬الشاب،‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬رغبة‭ ‬مني،‭ ‬إذ‭ ‬كانت‭ ‬لي‭ ‬أهداف‭ ‬وطموحات‭ ‬أخرى‭ ‬أرغب‭ ‬في‭ ‬تحقيقها‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬هذا،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬يمنحني‭ ‬الأمان‭ ‬والمال‭ ‬وما‭ ‬إلى‭ ‬ذلك،‭ ‬وكان‭ ‬يحاول‭ ‬التقرب‭ ‬مني،‭ ‬ولكن‭ ‬لم‭ ‬أحاول‭ ‬أن‭ ‬أستميله‭ ‬أبدًا‭ ‬أو‭ ‬أفعل‭ ‬الفاحشة‭ ‬معه،‭ ‬وبعد‭ ‬مدة‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬تزوجني،‭ ‬وطلب‭ ‬مني‭ ‬ترك‭ ‬العمل‭ ‬والدراسة‭ ‬وكل‭ ‬شيء‭ ‬ورائي،‭ ‬قائلاً‭: ‬أنت‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬أمان،‭ ‬لماذا‭ ‬تريدين‭ ‬العمل‭ ‬أو‭ ‬الدراسة،‭ ‬أنا‭ ‬أريدك‭ ‬في‭ ‬البيت،‭ ‬تربين‭ ‬أولادنا‭ ‬وتنظيم‭ ‬حياتنا‭. ‬

وبالفعل‭ ‬عشت‭ ‬حياتي‭ ‬معه،‭ ‬سنوات‭ ‬وسنوات،‭ ‬أنجبت‭ ‬خلالها‭ ‬ثلاثة‭ ‬أطفال؛‭ ‬ولد‭ ‬وبنتين،‭ ‬وتغيرت‭ ‬حياتي‭ ‬تمامًا،‭ ‬فلا‭ ‬أكاد‭ ‬أصدق‭ ‬أني‭ ‬أعيش‭ ‬في‭ ‬سعادة‭ ‬وهناء،‭ ‬ولكن‭ ‬من‭ ‬قال‭ ‬إن‭ ‬الهناء‭ ‬والسعادة‭ ‬يستمران،‭ ‬تركني‭ ‬زوجي‭ ‬في‭ ‬ليلة‭ ‬من‭ ‬ليالي‭ ‬الشتاء،‭ ‬ولا‭ ‬أعرف‭ ‬السبب،‭ ‬أخذني‭ ‬من‭ ‬يدي‭ ‬أنا‭ ‬وأطفالي‭ ‬وتركنا‭ ‬في‭ ‬الشارع،‭ ‬ولا‭ ‬أعرف‭ ‬لماذا؟‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬كلام‭ ‬أو‭ ‬توضيح،‭ ‬تساءلت‭: ‬أين‭ ‬أذهب‭ ‬الآن‭ ‬في‭ ‬منتصف‭ ‬الليل؟‭ ‬لا‭ ‬أعرف،‭ ‬وبكاء‭ ‬أطفال‭ ‬يخترق‭ ‬آذاني،‭ ‬وفي‭ ‬تلك‭ ‬اللحظة‭ ‬وجدت‭ ‬نفسي‭ ‬في‭ ‬صراع‭ ‬مرير‭ ‬مع‭ ‬الحياة،‭ ‬إلا‭ ‬أني‭ ‬رفضت‭ ‬الاستلام،‭ ‬فاستأجرت‭ ‬غرفة‭ ‬صغيرة،‭ ‬في‭ ‬عمارة،‭ ‬وكنت‭ ‬أترك‭ ‬أطفالي‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬في‭ ‬الغرفة‭ ‬وأنزل‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬عمل،‭ ‬أي‭ ‬عمل،‭ ‬وبالفعل‭ ‬بعد‭ ‬عدة‭ ‬أيام‭ ‬وجدت‭ ‬عمل‭ ‬خادمة‭ ‬في‭ ‬مطعم‭ ‬أيضًا،‭ ‬المهم‭ ‬أنه‭ ‬عمل‭.‬

كبر‭ ‬الأطفال،‭ ‬وسجلت‭ ‬الولد‭ ‬والبنت‭ ‬الكبيرة‭ ‬في‭ ‬المدرسة،‭ ‬وهذا‭ ‬شكل‭ ‬عبئا‭ ‬ماديًا‭ ‬كبيرًا،‭ ‬فاشتغلت‭ ‬في‭ ‬عدة‭ ‬أعمال‭ ‬حتى‭ ‬أوفر‭ ‬لأطفالي‭ ‬الحياة‭ ‬بقدر‭ ‬الإمكان،‭ ‬وذات‭ ‬يوم‭ ‬وصلتني‭ ‬مذكرة‭ ‬من‭ ‬المحكمة‭ ‬من‭ ‬زوجي‭ ‬يخطرني‭ ‬بالطلاق،‭ ‬ويجب‭ ‬أن‭ ‬أُسلم‭ ‬الولد‭ ‬لوالده،‭ ‬فبكيت‭ ‬وبكيت،‭ ‬ولكن‭ ‬حكم‭ ‬المحكمة‭ ‬سار‭. ‬حاولت‭ ‬كثيرًا‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬أتمكن‭ ‬من‭ ‬فعل‭ ‬شيء،‭ ‬فسكت‭ ‬واستسلمت‭ ‬لقدري‭.‬

عشت‭ ‬مع‭ ‬الطفلتين،‭ ‬سنوات‭ ‬وأنا‭ ‬أحاول‭ ‬أن‭ ‬أوفر‭ ‬لهما‭ ‬الحياة‭ ‬بأقل‭ ‬قدر‭ ‬ممكن،‭ ‬وبعدما‭ ‬كبر‭ ‬الأطفال‭ ‬نوعًا‭ ‬ما،‭ ‬تقدم‭ ‬لي‭ ‬رجل‭ ‬ثري‭ ‬للزواج،‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬كان‭ ‬متزوجًا،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬ينجب،‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬له‭ ‬الأطباء،‭ ‬فلم‭ ‬يكن‭ ‬أمامي‭ ‬خيارات،‭ ‬فتزوجني‭ ‬على‭ ‬أمل‭ ‬أن‭ ‬يعيش‭ ‬هكذا‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أطفال،‭ ‬فتزوجنا،‭ ‬وكنت‭ ‬له‭ ‬الزوجة‭ ‬الوفية‭ ‬التي‭ ‬تحافظ‭ ‬على‭ ‬بيته‭ ‬وحياته،‭ ‬ولكن‭ ‬شاء‭ ‬الله‭ ‬أن‭ ‬أحبل‭ ‬منه،‭ ‬كيف‭ ‬ولماذا؟‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭. ‬وعندما‭ ‬علم‭ ‬هو‭ ‬وأهله‭ ‬بذلك‭ ‬جن‭ ‬جنونهم،‭ ‬واتهموني‭ ‬في‭ ‬شرفي،‭ ‬وأنا‭ ‬أقسم‭ ‬بالله‭ ‬أني‭ ‬لم‭ ‬أفعل‭ ‬الفاحشة‭ ‬قط‭. ‬وكان‭ ‬موقف‭ ‬الأهل‭ ‬يتلخص‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭: ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يأتي‭ ‬لزوجي‭ ‬طفل‭ ‬وهو‭ ‬العقيم؟‭ ‬وكانت‭ ‬أعينهم‭ ‬على‭ ‬الميراث‭ ‬والثراء‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يخلفه‭.‬

طردني‭ ‬من‭ ‬البيت،‭ ‬وعدت‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬إلى‭ ‬الشارع،‭ ‬وذهبت‭ ‬إلى‭ ‬صاحب‭ ‬العمارة‭ ‬لإعادة‭ ‬استئجار‭ ‬الغرفة‭ ‬الوحيدة،‭ ‬وعدت‭ ‬إلى‭ ‬العمل‭ ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬وبعدها‭ ‬بعدة‭ ‬أشهر‭ ‬قليلة،‭ ‬سمعت‭ ‬طرقات‭ ‬باب‭ ‬الغرفة،‭ ‬ذهبت‭ ‬ابنتي‭ ‬لفتح‭ ‬الباب‭ ‬وإذ‭ ‬بزوجي‭ ‬الثاني،‭ ‬جاء‭ ‬ليعقد‭ ‬معي‭ ‬صفقة،‭ ‬وهي‭: ‬يجب‭ ‬فحص‭ ‬الحمض‭ ‬النووي‭ (‬DNA‭) ‬للطفل،‭ ‬فإن‭ ‬كان‭ ‬مطابقًا‭ ‬له‭ ‬أرجعني‭ ‬واعترف‭ ‬بالطفل،‭ ‬وإلا‭ ‬فإن‭ ‬مصيري‭ ‬مع‭ ‬أطفالي‭ ‬إلى‭ ‬الشارع‭.‬

وفي‭ ‬موعد‭ ‬الولادة،‭ ‬جاءت‭ ‬طفلة،‭ ‬وتم‭ ‬فحص‭ ‬الحمض‭ ‬النووي،‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬ماذا‭ ‬حدث،‭ ‬فلم‭ ‬يتطابق‭ ‬حمضها‭ ‬النووي‭ ‬مع‭ ‬والدها،‭ ‬فتم‭ ‬طردي‭ ‬والاستهزاء‭ ‬بي،‭ ‬وتم‭ ‬رمي‭ ‬إلى‭ ‬الشارع،‭ ‬وهأنذا،‭ ‬من‭ ‬شارع‭ ‬إلى‭ ‬شارع،‭ ‬ومن‭ ‬غرفة‭ ‬مظلمة‭ ‬إلى‭ ‬غرفة‭ ‬أكثر‭ ‬سوءًا،‭ ‬هربت‭ ‬ابنتي‭ ‬الكبرى‭ ‬ولا‭ ‬أعرف‭ ‬لها‭ ‬أثر،‭ ‬ومرت‭ ‬سنوات‭ ‬وأنا‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الوضع‭.‬

تقول‭ ‬الاختصاصية؛‭ ‬طمأنتها‭ ‬وأخبرتها‭ ‬بأننا‭ ‬سنحاول‭ ‬أن‭ ‬نتواصل‭ ‬مع‭ ‬بعض‭ ‬الجهات‭ ‬حتى‭ ‬يتم‭ ‬استرداد‭ ‬حقوقها‭ ‬كلها،‭ ‬ابتسمت‭ ‬وقالت‭: ‬حاولت،‭ ‬ولكن‭ ‬ليس‭ ‬لدي‭ ‬المال‭ ‬الكافي‭ ‬لإقامة‭ ‬دعوة‭ ‬أو‭ ‬توكيل‭ ‬محام‭.‬

تذكرت‭ ‬أني‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬نظمت‭ ‬دورة‭ ‬تدريبية‭ ‬لبعض‭ ‬المحامين‭ ‬والقانونين‭ ‬متعلقة‭ ‬بالقضايا‭ ‬الاجتماعية‭ ‬وما‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬موضوعات،‭ ‬فقمت‭ ‬بالاتصال‭ ‬بأحد‭ ‬المحامين‭ ‬الشباب،‭ ‬وحكيت‭ ‬له‭ ‬الحكاية‭ ‬كلها،‭ ‬وسألني‭ ‬سؤال‭ ‬واحد‭: ‬ما‭ ‬اسم‭ ‬تلك‭ ‬المرأة؟‭ ‬فذكرت‭ ‬اسمها‭. ‬فقال‭: ‬في‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬ساعة‭ ‬سأكون‭ ‬عندك‭.‬

بعد‭ ‬حوالي‭ ‬20‭ ‬دقيقة‭ ‬دخل‭ ‬علي‭ ‬المحامي‭ ‬الشاب‭ ‬وهو‭ ‬يلهث،‭ ‬فقال‭: ‬أين‭ ‬المرأة؟

استغربت‭ ‬من‭ ‬تصرفه،‭ ‬ولكن‭ ‬لم‭ ‬أعبأ،‭ ‬فأرشدته‭ ‬إلى‭ ‬غرفة‭ ‬المرأة‭ ‬وبناتها،‭ ‬فطرقت‭ ‬الباب،‭ ‬ودخلنا،‭ ‬فوقف‭ ‬الشاب‭ ‬وإذ‭ ‬بالدموع‭ ‬تذرف‭ ‬من‭ ‬عينيه‭ ‬بصورة‭ ‬غريبة،‭ ‬وأنا‭ ‬أنظر‭ ‬إليه‭ ‬وإلى‭ ‬المرأة‭ ‬التي‭ ‬وقفت‭ ‬مذهولة‭ ‬وهي‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬ما‭ ‬الموضوع‭.‬

فصرخ‭ ‬الشاب‭: ‬أمي‭. ‬ثم‭ ‬ارتمى‭ ‬في‭ ‬حضنها،‭ ‬وهو‭ ‬يقبل‭ ‬يديها‭ ‬ورأسها،‭ ‬وكان‭ ‬الموقف‭ ‬لا‭ ‬يحتمل،‭ ‬كيف‭ ‬دارت‭ ‬الحياة‭. ‬ثم‭ ‬راح‭ ‬وقبل‭ ‬شقيقتيه،‭ ‬وحضنهما،‭ ‬وهو‭ ‬يبكي‭.‬

وبعد‭ ‬الانتهاء‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬الموقف،‭ ‬قال‭ ‬لأمه‭: ‬لا‭ ‬يهمك‭ ‬أنا‭ ‬سوف‭ ‬أعيد‭ ‬لك‭ ‬كل‭ ‬حقوقك،‭ ‬من‭ ‬والدي‭ ‬وذلك‭ ‬الرجل‭ ‬الذي‭ ‬طردك،‭ ‬سوف‭ ‬نعيد‭ ‬فحص‭ ‬الحمض‭ ‬النووي‭ ‬وستأخذين‭ ‬حقك‭ ‬من‭ ‬مال‭ ‬وحقوق‭.‬

وبالفعل،‭ ‬تم‭ ‬إعادة‭ ‬فتح‭ ‬التحقيق‭ ‬في‭ ‬الموضوع،‭ ‬فتبين‭ ‬أن‭ ‬الطبيب‭ ‬الذي‭ ‬أجرى‭ ‬فحص‭ ‬الحمض‭ ‬النووي‭ ‬قد‭ ‬زيف‭ ‬الفحص‭ ‬بطلب‭ ‬من‭ ‬والد‭ ‬الطفلة‭ ‬مقابل‭ ‬مبلغ‭ ‬من‭ ‬المال،‭ ‬فتم‭ ‬تعويض‭ ‬الأم‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬والطبيب‭ ‬وعائلة‭ ‬الرجل،‭ ‬ثم‭ ‬التفت‭ ‬الولد‭ ‬إلى‭ ‬والده‭ ‬وطلب‭ ‬منه‭ ‬أن‭ ‬يعوض‭ ‬والدته‭ ‬كل‭ ‬مستحقاتها،‭ ‬وإلا‭ ‬فإنه‭ ‬سوف‭ ‬يقيم‭ ‬عليه‭ ‬دعوة،‭ ‬ومركزه‭ ‬الاجتماعي‭ ‬لا‭ ‬يتقبل‭ ‬ذلك،‭ ‬وبهدوء‭ ‬تم‭ ‬تعويض‭ ‬المرأة‭.‬

واليوم‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬مع‭ ‬ولدها‭ ‬الوحيد‭ ‬وبناتها،‭ ‬وتبقى‭ ‬البنت‭ ‬الكبرى‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬أحد‭ ‬عنها‭ ‬شيئا‭.‬

قالت‭ ‬الاختصاصية‭: ‬ما‭ ‬رأيك؟

قلت‭: ‬إنها‭ ‬قصة‭ ‬من‭ ‬قصص‭ ‬ألف‭ ‬ليلة‭ ‬وليلة‭.‬

قالت‭: ‬نعم‭ ‬إنها‭ ‬كذلك،‭ ‬فمجتمعنا‭ ‬الغربي‭ ‬يحتضن‭ ‬مشاكل‭ ‬لا‭ ‬حصر‭ ‬لها،‭ ‬وللأسف‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬من‭ ‬يخفف‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬المعاناة‭ ‬عن‭ ‬مثل‭ ‬هؤلاء،‭ ‬ونحن‭ ‬في‭ ‬المراكز‭ ‬الاجتماعية‭ ‬نحاول‭ ‬ولكن‭ ‬الموارد‭ ‬لا‭ ‬تكفي‭.‬

وبعدما‭ ‬انتهت‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الحكاية،‭ ‬تذكرت‭ ‬المثل‭ ‬الشعبي‭ ‬الذي‭ ‬يقول‭ (‬تراها‭ ‬تبطي،‭ ‬بس‭ ‬ما‭ ‬تخطي‭).‬

 

Zkhunji@hotmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا