قالت لي زميلة مدربة واختصاصية اجتماعية من دولة أوروبية وتدير مركزا اجتماعيا، بعد أن عرفت أني أكتب في الجريدة وقد أصدرت بعضًا من الكتب: سوف أروي لك حكاية، قد تظنها من وحي الخيال، ولكنها حقيقية وواقعية بقدر ما أنت تجلس أمامي الآن.
قلت: أين وقعت؟
قالت: عندنا في الغرب (وذكرت اسم المدينة، والمكان والزمان).
قلت: إذن قولي.
قالت: ذات يوم اتصلت بي صديقة، وقالت لي إنها تعرف امرأة تحتاج إلى رعاية اجتماعية خاصة، فهي تعاني من مر الحياة، فالمشاكل أحاطتها منذ زمن بعيد ولا تعرف الفكاك منها، فهل يمكن مساعدتها؟ وافقت على طلبها، وطلبت منها إحضارها إلى المركز، حتى يتم دراسة حالتها وعمل الإجراءات الخاصة بها، ومساعدتها بأي نوع من المساعدة.
بعد عدة أيام جاءت صديقتي، ومعها امرأة ليست كبيرة في السن، إذ يبدو عليها أنها في منتصف الخمسينات، وكانت تجر خلفها فتاتين، واحدة في حوالي الخامسة من العمر والأخرى في الخامسة عشرة أو أكبر قليلاً. قامت إحدى الاختصاصيات بإدخالها غرفة الاستراحة، تم تقديم الطعام والشراب لها وللفتاتين، وحتى تهدأ من عناء الحياة.
قالت صديقتي: أنا أريدك أنت أن تقومي بدراسة حالتها، لأنها حالة تختلف عن كثير من الحالات التي تعرفين، إنها حالة غريبة وخيالية. فوافقت أن أقوم بنفسي بدراسة حالتها.
بعد أن استراحت المرأة وابنتيها تم تسجيلها في السجلات، وتقديم غرفة لها، وفي الحقيقة لم أتمكن في تلك اللحظة من مجالستها حتى أتعرف عليها وعلى حكايتها، وذلك لأني كنت مشغولة ببعض الأعمال المكتبية، لذلك أرجأتها إلى وقت آخر، وعلى هذا الأساس قدمت لها غرفة لتنام وتستريح وتستحم هي وبناتها حتى أنتهي من مهامي. استقرت المرأة في الغرفة وهدأت نفوسهن، وأصبحن يتأقلمن على الوضع نوعًا ما.
وبعد حوالي يومين، استقبلت المرأة في مكتبي وكانت تصاحبني واحدة من اختصاصيات المركز، فقدمت نفسي لها، وعندما عرفتني أني صاحبت المركز حاولت تقبيلي وضمي، وهي تبكي، وتكرر كلمات الامتنان والحب وما إلى ذلك، وبعدما هدأت طلبت منها أن تروي حياتها حتى نتمكن من تقديم خدماتنا بأفضل صورة ممكنة، قالت:
قدمت من الريف منذ سنوات من أجل العمل والدراسة، وأنا من أسرة متعففة مكافحة، نحاول أن نعيش بجهودنا، وكذلك فنحن من أسرة متدينة نوعًا ما، تقدمت للجامعة (الفلانية) فتم الموافقة على طلبي، وعملت في مطعم (..) في وظيفة غسل الصحون والأطباق، ومن الراتب القليل جدًا كنت أدفع للكلية والسكن، وأما الوجبات فكنت آكل من بقايا الأكل الموجود في الأطباق التي أقوم بغسلها، أجمعها في مكان واحد وأتناول بعضها الذي يمكن تناوله. استمر الوضع على هذا المنوال مدة سنة تقريبًا، وأنا أعيش في هذا الضنك، وكنت أحلم بأنه سوف يأتي اليوم الذي سأتخرج فيه وأعيش أفضل.
ذات يوم دخل المطعم شاب، جميل ووسيم، وعندما رآني طلب من مشرف المطعم أن أقدم له أنا وجبة الطعام، فأصر المشرف على أن أقوم أنا بواجب الضيافة والخدمة، وبالفعل قمت بالواجب بقدر ما أعرف، وأثناء ذلك، كنت أقف بعيدة من الشاب والمشرف الذي كان يتحدث مع الشاب، وهو مطأطأ الرأس والشاب يضحك ويبتسم، وعندما انتهى أشار إليّ فذهبت فقدم لي بعض المال، على سبيل الرشوة، وابتسم ثم غادر. ولكن تكررت زيارات الشاب مرات ومرات، وذات يوم قال لي مشرف المطعم: أتعرفين من هذا الشاب؟ فقلت له: لا، ولكنه رجل نبيل وخاصة أنه يمنحني بقشيشا جيدا. قال: إنه صاحب هذا المطعم وسلسلة طويلة من المطاعم، فهو ثري جدًا.
توطدت علاقتي مع هذا الشاب، من غير رغبة مني، إذ كانت لي أهداف وطموحات أخرى أرغب في تحقيقها بعيدًا عن كل هذا، على الرغم من أنه كان يمنحني الأمان والمال وما إلى ذلك، وكان يحاول التقرب مني، ولكن لم أحاول أن أستميله أبدًا أو أفعل الفاحشة معه، وبعد مدة من الزمن تزوجني، وطلب مني ترك العمل والدراسة وكل شيء ورائي، قائلاً: أنت الآن في أمان، لماذا تريدين العمل أو الدراسة، أنا أريدك في البيت، تربين أولادنا وتنظيم حياتنا.
وبالفعل عشت حياتي معه، سنوات وسنوات، أنجبت خلالها ثلاثة أطفال؛ ولد وبنتين، وتغيرت حياتي تمامًا، فلا أكاد أصدق أني أعيش في سعادة وهناء، ولكن من قال إن الهناء والسعادة يستمران، تركني زوجي في ليلة من ليالي الشتاء، ولا أعرف السبب، أخذني من يدي أنا وأطفالي وتركنا في الشارع، ولا أعرف لماذا؟ من غير كلام أو توضيح، تساءلت: أين أذهب الآن في منتصف الليل؟ لا أعرف، وبكاء أطفال يخترق آذاني، وفي تلك اللحظة وجدت نفسي في صراع مرير مع الحياة، إلا أني رفضت الاستلام، فاستأجرت غرفة صغيرة، في عمارة، وكنت أترك أطفالي كل يوم في الغرفة وأنزل أبحث عن عمل، أي عمل، وبالفعل بعد عدة أيام وجدت عمل خادمة في مطعم أيضًا، المهم أنه عمل.
كبر الأطفال، وسجلت الولد والبنت الكبيرة في المدرسة، وهذا شكل عبئا ماديًا كبيرًا، فاشتغلت في عدة أعمال حتى أوفر لأطفالي الحياة بقدر الإمكان، وذات يوم وصلتني مذكرة من المحكمة من زوجي يخطرني بالطلاق، ويجب أن أُسلم الولد لوالده، فبكيت وبكيت، ولكن حكم المحكمة سار. حاولت كثيرًا إلا أنه لم أتمكن من فعل شيء، فسكت واستسلمت لقدري.
عشت مع الطفلتين، سنوات وأنا أحاول أن أوفر لهما الحياة بأقل قدر ممكن، وبعدما كبر الأطفال نوعًا ما، تقدم لي رجل ثري للزواج، هذا الرجل كان متزوجًا، إلا أنه لا ينجب، كما قال له الأطباء، فلم يكن أمامي خيارات، فتزوجني على أمل أن يعيش هكذا من غير أطفال، فتزوجنا، وكنت له الزوجة الوفية التي تحافظ على بيته وحياته، ولكن شاء الله أن أحبل منه، كيف ولماذا؟ لا أعرف. وعندما علم هو وأهله بذلك جن جنونهم، واتهموني في شرفي، وأنا أقسم بالله أني لم أفعل الفاحشة قط. وكان موقف الأهل يتلخص في هذا السؤال: كيف يمكن أن يأتي لزوجي طفل وهو العقيم؟ وكانت أعينهم على الميراث والثراء الذي يمكن أن يخلفه.
طردني من البيت، وعدت مرة أخرى إلى الشارع، وذهبت إلى صاحب العمارة لإعادة استئجار الغرفة الوحيدة، وعدت إلى العمل مرة أخرى، وبعدها بعدة أشهر قليلة، سمعت طرقات باب الغرفة، ذهبت ابنتي لفتح الباب وإذ بزوجي الثاني، جاء ليعقد معي صفقة، وهي: يجب فحص الحمض النووي (DNA) للطفل، فإن كان مطابقًا له أرجعني واعترف بالطفل، وإلا فإن مصيري مع أطفالي إلى الشارع.
وفي موعد الولادة، جاءت طفلة، وتم فحص الحمض النووي، ولكن لا أعرف ماذا حدث، فلم يتطابق حمضها النووي مع والدها، فتم طردي والاستهزاء بي، وتم رمي إلى الشارع، وهأنذا، من شارع إلى شارع، ومن غرفة مظلمة إلى غرفة أكثر سوءًا، هربت ابنتي الكبرى ولا أعرف لها أثر، ومرت سنوات وأنا في هذا الوضع.
تقول الاختصاصية؛ طمأنتها وأخبرتها بأننا سنحاول أن نتواصل مع بعض الجهات حتى يتم استرداد حقوقها كلها، ابتسمت وقالت: حاولت، ولكن ليس لدي المال الكافي لإقامة دعوة أو توكيل محام.
تذكرت أني منذ زمن نظمت دورة تدريبية لبعض المحامين والقانونين متعلقة بالقضايا الاجتماعية وما إلى ذلك من موضوعات، فقمت بالاتصال بأحد المحامين الشباب، وحكيت له الحكاية كلها، وسألني سؤال واحد: ما اسم تلك المرأة؟ فذكرت اسمها. فقال: في أقل من ساعة سأكون عندك.
بعد حوالي 20 دقيقة دخل علي المحامي الشاب وهو يلهث، فقال: أين المرأة؟
استغربت من تصرفه، ولكن لم أعبأ، فأرشدته إلى غرفة المرأة وبناتها، فطرقت الباب، ودخلنا، فوقف الشاب وإذ بالدموع تذرف من عينيه بصورة غريبة، وأنا أنظر إليه وإلى المرأة التي وقفت مذهولة وهي لا تعرف ما الموضوع.
فصرخ الشاب: أمي. ثم ارتمى في حضنها، وهو يقبل يديها ورأسها، وكان الموقف لا يحتمل، كيف دارت الحياة. ثم راح وقبل شقيقتيه، وحضنهما، وهو يبكي.
وبعد الانتهاء من كل هذا الموقف، قال لأمه: لا يهمك أنا سوف أعيد لك كل حقوقك، من والدي وذلك الرجل الذي طردك، سوف نعيد فحص الحمض النووي وستأخذين حقك من مال وحقوق.
وبالفعل، تم إعادة فتح التحقيق في الموضوع، فتبين أن الطبيب الذي أجرى فحص الحمض النووي قد زيف الفحص بطلب من والد الطفلة مقابل مبلغ من المال، فتم تعويض الأم من هذا الرجل والطبيب وعائلة الرجل، ثم التفت الولد إلى والده وطلب منه أن يعوض والدته كل مستحقاتها، وإلا فإنه سوف يقيم عليه دعوة، ومركزه الاجتماعي لا يتقبل ذلك، وبهدوء تم تعويض المرأة.
واليوم تعيش في بيت مع ولدها الوحيد وبناتها، وتبقى البنت الكبرى لا يعرف أحد عنها شيئا.
قالت الاختصاصية: ما رأيك؟
قلت: إنها قصة من قصص ألف ليلة وليلة.
قالت: نعم إنها كذلك، فمجتمعنا الغربي يحتضن مشاكل لا حصر لها، وللأسف لا يوجد من يخفف كل هذه المعاناة عن مثل هؤلاء، ونحن في المراكز الاجتماعية نحاول ولكن الموارد لا تكفي.
وبعدما انتهت من هذه الحكاية، تذكرت المثل الشعبي الذي يقول (تراها تبطي، بس ما تخطي).
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك