هناك مشاهد تبقى عالقة في الذاكرة، كأسر ترافق أبناءها من ذوي الإعاقة بكل حب في الأماكن العامة، سواء في الحدائق أو مراكز التسوق، استوقفني مشهد أم تحتضن ابنتها من ذوي الإعاقة وتطبع قبلة على جبينها قبل أن تدفع كرسيها نحو المطعم المفضل لديهما في أحد مجمعاتنا التجارية.
كانت الابتسامة تشع من وجهها، وكأنها تقول للعالم: «رغم التحديات، وجودهم هو النعمة التي تمنح لحياتنا معنى أسمى». هذه المشاهد ترسم صورة مجتمع يحتضن أفراده، وتطرح سؤالا مهما: كيف يمكننا جميعا أن نسهم في جعل هذه الممارسات جزءًا طبيعيا من ثقافتنا اليومية؟ كيف نخلق بيئة يستطيع فيها الجميع، مهما كانت ظروفهم، أن يعيشوا دون عوائق أو استثناءات؟
في البحرين، بفضل الله، هناك خطوات جادة لتحسين حياة الأشخاص من ذوي الإعاقة. الجهود تشمل تطوير المرافق العامة لتكون أكثر سهولة للوصول، وتوفير خدمات تعليمية وصحية تناسب احتياجاتهم.
لم تغفل هذه الجهود المرأة من ذوي الإعاقة، إذ إنه تم إطلاق مبادرات لتعزيز دورها وتمكينها في المجتمع. هذه الجهود المتكاملة، التي تحميها التشريعات، تعكس التزام المملكة بخلق بيئة تتيح للجميع فرصا متساوية للحياة والمشاركة.
وتشهد دول الخليج نماذج ملهمة من ذوي الهمم الذين يتخطون التحديات بإرادة قوية، كالشاب القطري المؤثر في مواقع التواصل الاجتماعي المصاب بمتلازمة التراجع الذيلي، غانم المفتاح، الذي يلهم الآلاف عبر منصات التواصل بإيجابياته وإصراره على النجاح.
وفي البحرين، نرى نماذج مشرفة مماثلة من خلال مشاركات اللجنة البارالمبية البحرينية في المسابقات المحلية والإقليمية، إذ يثبت الرياضيون البحرينيون أن الإرادة أقوى من أي تحدٍ. كما نشهد نجاحات في مجالات التعليم والعمل المؤسسي، مما يؤكد أن التمكين المجتمعي يفتح آفاقا واسعة للإبداع والتميز.
تظهر قيمة هذه الجهود بشكل أكبر عند النظر في حياة الأسر التي تعيش هذه التحديات. تقول أم محمد، والدة طفل مصاب بمتلازمة داون، إن تعاون المدرسة مع ابنها كان مصدرًا للطمأنينة، حيث ساعده الدعم على تحقيق توازن اجتماعي ودراسي مميز. مثل هذه القصص تؤكد أن الجهود المبذولة تصبح ذات معنى حقيقي عندما تلامس حياة الأفراد.
التجارب العالمية تقدم دروسا ملهمة يمكن الاستفادة منها. في سنغافورة، على سبيل المثال، تستخدم التكنولوجيا الذكية لتسهيل حياة ذوي الإعاقة، عبر أجهزة الاستشعار في الشوارع وتطبيقات الهواتف التي تعتمد على توجيه المكفوفين ومساعدتهم في التنقل. في السويد والدنمارك، يعد «التصميم الشامل» معيارًا أساسيا عند إنشاء البنية التحتية، بحيث تصمم المرافق منذ البداية لتناسب الجميع، دون الحاجة إلى تعديلات لاحقة. وفي اليابان، يعتبر النقل العام نموذجا للتكيف مع احتياجات ذوي الإعاقة، إذ تضم المحطات موظفين مدربين لتقديم المساعدة، مع تصميم القطارات لتسهيل استخدامها.
هذه الأمثلة تلهمنا بأفكار قابلة للتطبيق محليا، عن طريق تعزيز استخدام التكنولوجيا لتسهيل التنقل، أو توسيع نطاق تصميم المرافق لتكون ميسرة للجميع. كما يمكن العمل على تقوية التواصل مع الصم والبكم من خلال إدخال لغة الإشارة ضمن الأنشطة المدرسية، وبالتالي يجعلها جزءًا طبيعيا من الحياة اليومية.
وإلى جانب هذه الأفكار، تبرز الحاجة أيضا إلى مزيد من المبادرات المحلية التي تستمد قوتها من قيمنا البحرينية الأصيلة وروحنا المجتمعية الدافئة.
فما رأيكم في فكرة «جيران من ذهب»؟ قد تكون هذه الفكرة ملهمة مجتمعيا، حيث تهدف إلى تحويل كل «حي» إلى نموذج يحتذى به من التكاتف والاحتضان. تخيلوا أحياءً يتكاتف فيها الجيران لدعم الأسر التي لديها أفراد من ذوي الإعاقة، من خلال تقديم المساندة اليومية أو إشراكهم في الأنشطة المجتمعية.
يمكن تنظيم أنشطة متنوعة مثل مسابقات رياضية مصغرة، ورش عمل ترفيهية وتعليمية، أو تجمعات ثقافية تدمج الجميع. كما يمكن استثمار المناسبات الوطنية، مثل احتفالات الأعياد والعيد الوطني، لتنظيم فعاليات تعكس روح المحبة والقبول.
وتتحول نظرة المجتمع إلى نظرة أكثر نضجا، عندما يكتشف أن وجود ذوي الإعاقة في المحيط العام يمنح الجميع فرصة فريدة لتطوير مهارات التواصل والتعاطف. فالطفل يتعلم مبكراً معنى التنوع وقبول الاختلاف، والبالغ يكتسب رؤية موسعة للحياة، والموظف يطور قدرته على التعامل مع مختلف الشخصيات. هذا التأثير الإيجابي يشجع الأسر على اصطحاب أبنائهم بثقة إلى الحدائق والأماكن الترفيهية، مما يخلق حلقة متصلة من التفاعل الاجتماعي المثمر.
فلم تعد المسألة تقتصر على توفير الخدمات أو تسهيلات البنية التحتية، بل أصبحت رحلة نحو بناء مجتمع يكتشف في تنوع أفراده ثراءً لا حدود له. المقهى الذي يوظف شابا من ذوي الإعاقة يبرهن أن العطاء قوة تدفع عجلة الإنتاجية، والمدرسة التي تحتضن الجميع تصنع جيلا أكثر وعيا وتسامحا، والنادي الرياضي الذي يكون مؤهلا ويفتح أبوابه بلا استثناء يحول الأحلام إلى إنجازات ملموسة.
هذه المشاهد ليست لقطات عابرة، بل هي دلائل على أن المجتمع الذي يؤمن بقدرات أفراده، دون استثناء، هو المجتمع المتمكن من تحقيق التقدم الحقيقي. طريقنا نحو المستقبل يبدأ من هنا، من إيماننا بأن كل فرد، مهما كانت قدراته، يملك دورًا فريدا في بناء الوطن.
rajabnabeela@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك