العدد : ١٧٠٣٧ - الخميس ١٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٣٧ - الخميس ١٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

زيارة جديدة لأفكار عالم الاجتماع العراقي علي الوردي

بقلم: محمود الرحبي {

الخميس ١٤ نوفمبر ٢٠٢٤ - 02:00

بعض‭ ‬الكتب‭ ‬ذات‭ ‬الطابع‭ ‬الموسوعي،‭ ‬حين‭ ‬تنهيها‭ ‬تشعر‭ ‬وكأنّك‭ ‬عبرت‭ ‬غابةً‭ ‬متوالدةً‭ ‬من‭ ‬الفِكَر‭ ‬والمعلومات،‭ ‬بل‭ ‬ومن‭ ‬الكتب‭ ‬أيضا،‭ ‬حين‭ ‬يكون‭ ‬الكتاب‭ ‬في‭ ‬جوهره‭ ‬غابةَ‭ ‬كتبٍ‭ ‬انشطاريةٍ‭ ‬متوالدةٍ‭ ‬انضوت‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬واحد‭.‬

‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬معي‭ ‬حين‭ ‬أكملتُ‭ ‬قراءة‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬أسطورة‭ ‬الأدب‭ ‬الرفيع‮»‬‭ (‬دار‭ ‬كوفان،‭ ‬لندن،‭ ‬1994‭)‬،‭ ‬للمؤرّخ‭ ‬وعالم‭ ‬الاجتماع‭ ‬العراقي،‭ ‬علي‭ ‬الوردي،‭ ‬الذي‭ ‬حلّت‭ ‬ذكرى‭ ‬مولده‭ ‬الشهر‭ ‬الماضي‭ (‬23‭ ‬أكتوبر‭ -‬تشرين‭ ‬الأول‭ ‬2013‭). ‬والكتاب‭ ‬مجموعة‭ ‬مقالات‭ ‬مترابطة،‭ ‬مشغولة‭ ‬بسياق‭ ‬جدلي‭ ‬تجديدي‭ ‬للثقافة‭ ‬وللتاريخين‭ ‬الفكري‭ ‬والأدبي‭ ‬العربيين‭. ‬

نحو‭ ‬30‭ ‬مقالة‭ ‬متوهّجة،‭ ‬كلّ‭ ‬واحدةٍ‭ ‬في‭ ‬الكتاب‭ ‬تُشعِل‭ ‬فكرةً‭ ‬جديدةً‭. ‬يجادل‭ ‬بالتي‭ ‬هي‭ ‬أحسن‭ ‬أو‭ ‬أسوأ،‭ ‬ولا‭ ‬يترك‭ ‬سؤالاً‭ ‬معلّقاً‭ ‬في‭ ‬قلبه‭. ‬هناك‭ ‬من‭ ‬اختلف‭ ‬معه،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يفارقه،‭ ‬وكذلك‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يغمطه‭ ‬حقّه‭ ‬من‭ ‬العلم‭ ‬والموسوعية‭. ‬

في‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب،‭ ‬بسط‭ ‬علي‭ ‬الوردي‭ ‬رؤيته‭ ‬إلى‭ ‬التاريخ‭ ‬وللعالم‭ ‬ولطبيعة‭ ‬تفكيره،‭ ‬ولمخزون‭ ‬قراءاته‭ ‬اللامتناهية‭.‬

في‭ ‬المقالة‭ ‬الخامسة‭ ‬والعشرين،‭ ‬‮«‬الجاحظ‭ ‬وأبو‭ ‬حيّان‮»‬،‭ ‬يكتب‭: ‬‮«‬يتميّزان‭ ‬باطلاعهما‭ ‬على‭ ‬أسرار‭ ‬اللغة‭ ‬وأسرار‭ ‬الحياة‮»‬،‭ ‬ثمّ‭ ‬يضيف‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬المقالة‭ ‬الطويلة‭ ‬عنهما‭: ‬‮«‬ويشبه‭ ‬أبو‭ ‬حيّان‭ ‬الجاحظ‭ ‬كذلك‭ ‬بأسلوبه‭ ‬الواضح‭ ‬البسيط‭. ‬فالقارئ‭ ‬يحسّ‭ ‬بحرارة‭ ‬المعنى‭ ‬فيه،‭ ‬ويتجاوب‭ ‬معه‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعيقه‭ ‬عائق‭ ‬من‭ ‬حذلقة‭ ‬الألفاظ‮»‬‭. ‬

ويضيف‭: ‬‮«‬إذا‭ ‬كان‭ ‬الجاحظ‭ ‬قرأ‭ ‬الكتب‭ ‬حتى‭ ‬أغلق‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬الدكاكين‭ ‬في‭ ‬الليالي،‭ ‬فأبو‭ ‬حيّان‭ ‬كان‭ ‬ينسخ‭ ‬الكتب‮»‬‭. ‬ويقول‭ ‬أيضاً‭: ‬‮«‬إنهما‭ ‬يكتبان‭ ‬في‭ ‬أيّ‭ ‬موضوع‭ ‬يشاءان‮»‬‭. ‬وفي‭ ‬موضع‭ ‬آخر‭ ‬سمّاهما‭ ‬‮«‬كُتّاب‭ ‬المعنى‮»‬،‭ ‬إذ‭ ‬إن‭ ‬‮«‬وضوح‭ ‬الفكرة‭ ‬أهمّ‭ ‬من‭ ‬سلامة‭ ‬اللغة‮»‬‭.‬

تحدّث‭ ‬علي‭ ‬الوردي‭ ‬كثيراً‭ ‬في‭ ‬كتابه،‭ ‬وعبر‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مقالة،‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬الصراع‭ ‬النحوي‭ (‬الطوباوي‭) ‬بين‭ ‬الكوفيين‭ ‬والبصريين،‭ ‬الذي‭ ‬عطّل‭ ‬سلاسة‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬وعطّل‭ ‬تطوّرها‭.‬

‭ ‬وبالتالي،‭ ‬أخّر‭ ‬إتقانها‭ ‬لدى‭ ‬مختلف‭ ‬الأجيال‭. ‬فكلّ‭ ‬مدرسة‭ ‬أرادت‭ ‬أن‭ ‬تثبّت‭ ‬صحّة‭ ‬منهجها،‭ ‬وحاولت‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬تسلك‭ ‬أوعر‭ ‬الطرق‭. ‬وقد‭ ‬أطلق‭ ‬عليه‭ ‬الوردي‭ ‬‮«‬الجدل‭ ‬العقيم‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬أدّى‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬عقدة‭ ‬النحو‭ ‬العربي‮»‬‭.‬

وفي‭ ‬إحدى‭ ‬مقالاته،‭ ‬يكيل‭ ‬التنقيص‭ ‬من‭ ‬ابن‭ ‬العميد‭ ‬والصاحب‭ ‬بن‭ ‬عبّاد،‭ ‬لأنهما‭ ‬كانا‭ ‬من‭ ‬أسباب‭ ‬انحدار‭ ‬النثر‭ ‬العربي‭ (‬رغم‭ ‬شهرتهما‭ ‬الطائرة‭ ‬في‭ ‬زمنهما‭)‬،‭ ‬نظراً‭ ‬إلى‭ ‬ميولهما‭ ‬الشديدة‭ ‬نحو‭ ‬‮«‬الزخرفة‭ ‬الشكلية‮»‬،‭ ‬ومن‭ ‬الأقوال‭ ‬التي‭ ‬شاعت‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭: ‬‮«‬الكتابة‭ ‬بدأت‭ ‬بعبد‭ ‬الحميد‭ ‬وخُتِمت‭ ‬بابن‭ ‬العميد‮»‬،‭ ‬وهذا‭ ‬القول‭ ‬صحيح‭ ‬‮«‬إذا‭ ‬أخذنا‭ ‬بعين‭ ‬الاعتبار‭ ‬كتابة‭ ‬الزركشة‭ ‬والإسراف‭ ‬اللفظي،‭ ‬وهي‭ ‬الكتابة‭ ‬التي‭ ‬راجت‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الرابع‭ ‬رواجاً‭ ‬عجيباً‮»‬‭.‬

ويقول‭ ‬في‭ ‬موضع‭ ‬آخر‭: ‬‮«‬وفي‭ ‬القرن‭ ‬الرابع،‭ ‬ظهر‭ ‬ابن‭ ‬العميد‭ ‬الذي‭ ‬لقّب‭ ‬بـ«الجاحظ‭ ‬الثاني‮»‬،‭ ‬وهذا‭ ‬اللقب‭ ‬لا‭ ‬يمتّ‭ ‬إلى‭ ‬الواقع‭ ‬بصلة،‭ ‬إنّما‭ ‬هو‭ ‬يصوّر‭ ‬لنا‭ ‬الهوَّةَ‭ ‬العميقةَ‭ ‬التي‭ ‬انحدر‭ ‬إليها‭ ‬النثر‭ ‬العربي،‭ ‬ويشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الناس‭ ‬فهموا‭ ‬الجاحظ‭ ‬فهماً‭ ‬مغلوطاً‮»‬‭.‬

لا‭ ‬يخلو‭ ‬رأي‭ ‬الوردي‭ (‬في‭ ‬بعض‭ ‬الجوانب‭) ‬من‭ ‬استثارة،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬مجموعةً‭ ‬من‭ ‬الردود‭ ‬تنهال‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬وخارجه،‭ ‬وفي‭ ‬ذلك‭ ‬فائدة‭ ‬علمية،‭ ‬إذ‭ ‬استطعنا،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الجدل‭ ‬الخلّاق،‭ ‬أن‭ ‬نقف‭ ‬على‭ ‬أمثلة‭ ‬كثيرة‭ ‬غابت‭ ‬عن‭ ‬الوردي،‭ ‬وهو‭ ‬يدبج‭ ‬مقالاته‭ ‬النقدية،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يخلو‭ ‬بعضها‭ ‬من‭ ‬الحدّة،‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬عبد‭ ‬الرزّاق‭ ‬محيي‭ ‬الدين،‭ ‬الذي‭ ‬ردّ‭ ‬على‭ ‬علي‭ ‬الوردي‭ ‬حين‭ ‬كتب‭ ‬أن‭ ‬سبب‭ ‬مخاطبة‭ ‬المُحبّ‭ ‬بالمذكّر‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬القصائد‭ ‬العربية‭ ‬شيوع‭  ‬الانحياز‭ ‬الذكوري‭  ‬بين‭ ‬العرب،‭ ‬فكان‭ ‬ردّ‭ ‬عبد‭ ‬الرزاق‭ ‬أن‭ ‬سبب‭ ‬ذلك‭ ‬ليس‭ ‬شيوع‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه‭  ‬بل‭ ‬تقليد‭ ‬للمتصوّفة‭ ‬الذين‭ ‬يذهبون‭ ‬في‭ ‬قصائدهم‭ ‬إلى‭ ‬مخاطبة‭ ‬المذكّر‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬المؤنّث‭.‬

ويرى‭ ‬الوردي‭ ‬أن‭ ‬شيوع‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬بسبب‭ ‬انتشار‭ ‬ظاهرة‭ ‬الحجاب‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬المتأخّرة‭ ‬في‭ ‬الإسلام،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬في‭ ‬ظلّ‭ ‬الهيمنة‭ ‬العثمانية‭. ‬ينمّ‭ ‬الوردي‭ ‬في‭ ‬مقالاته‭ ‬عن‭ ‬قارئ‭ ‬خطير،‭ ‬ولكن‭ ‬ربّما‭ ‬ارتباك‭ ‬منهجه‭ ‬وعدم‭ ‬تمحّصه‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المقالات‭ ‬يجعلان‭ ‬منه‭ ‬صيداً‭ ‬سهلاً‭ ‬للردود‭. ‬

ولكنّ‭ ‬الغريب‭ ‬أنه‭ ‬يأتي،‭ ‬في‭ ‬مقالاتٍ‭ ‬كثيرة،‭ ‬بهذه‭ ‬الردود‭ ‬التي‭ ‬قيلت‭ ‬ضدّ‭ ‬مقالاته‭ ‬ويبرزها،‭ ‬ربّما‭ ‬لأن‭ ‬معظمها‭ ‬كتب‭ ‬بصيغة‭ ‬تحترم‭ ‬قدره‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تنقص‭ ‬من‭ ‬علمه،‭ ‬ولا‭ ‬تناقش‭ ‬إلا‭ ‬فكرة‭ ‬معيّنة‭ ‬من‭ ‬فِكَره،‭ ‬ولن‭ ‬نستغرب‭ ‬إن‭ ‬رأينا‭ ‬أوّل‭ ‬مقالات‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬قد‭ ‬خصّصها‭ ‬لنشر‭ ‬جوانب‭ ‬من‭ ‬مقالاتٍ‭ ‬لأبرز‭ ‬خصومه‭.‬

 

{ كاتب‭ ‬وروائي‭ ‬من‭ ‬سلطنة‭ ‬عمان

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا