لا يمكننا نكران أن اللغة العربية تعاني من مشكلات معقدة، بعضها مزمن وكان معروضًا ومعروفًا ولم يجد حلًا على مدار سنين، وبعضها جديد، وصار مكشوفًا للأذهان، ولا تحتاج إلى جهد مضن حتى نقف عليها، ونشخصها، ونفكر في حلول لها.
فهناك مشكلات تتعلق بتطوير النحو بحيث يصبح أسهل، وهي مسألة بُحّ صوت الدكتور طه حسين وغيره، في سبيل تلافيها. وبعضها يتعلق بإيجاد الألفاظ المناسبة التي تواكب التطور العلمي والحضاري، وما تلقيه العولمة في نهر اللغات من مفردات ومفاهيم واصطلاحات كل يوم تقريبا. وبعضها يرتبط بإيجاد بلاغة جديدة في التشبيه والاستعارة والمبالغة وصناعة الصورة وقدح الخيال.
وهناك مشكلة تتعلق بالانسياق وراء الاشتقاق اللغوي لصنع تصورات ومسارات منهجية.
وهذا الأمر صار إحدى خصائص البحث في العلوم الإنسانية في الجامعات والمعاهد العربية، فالباحث يبدأ دوما بالجري وراء دلالات الاشتقاقات اللغوية لمصطلحاته أو مفاهيمه، ويستعين في هذا بالمعاجم القديمة، ناسيا أن اللغة كائن حي يتغير أحيانا مع تغير السياق الاجتماعي.
ويزداد الأمر سوءًا حين يصبح النص اللغوي القديم محددا للتفكير الحديث، ينجذب إليه، ويدور في فلكه، وينتج به نماذج إرشادية وأنساق تفكير.
لكن المشكلة لا تقتصر على هذا بالطبع، فهناك جانب أعوص وأصعب يرتبط بوجود اللغة العربية نفسها. فقد زحفت عليها اللهجات العامية بقسوة، ولم تقف عند حد أن تكون متداولة شفاهة، كما كان سابقا، ثم بات أغلب الجيل الجديد يعتمدها في التعبير عن آرائه ومواقفه وأفكاره ومشاعره، بل وصل الأمر إلى بعض الكتاب أو الأدباء، وها نحن نتابع ما يكتبونه بالعامية الفجة على مواقع التواصل الاجتماعي ونتعجب، لا سيما أن ما يكتبونه لا يكون من قبيل الحوار الذي يمكن أن يفرض اللهجات العامية المحلية، بل في الوصف والتصوير والتحليل والتخيل وإبداء الرأي، وإعلان الموقف.
وبعض اللهجات العامية المحكية لديها قدرة هائلة على التعبير وتجاوز الكثير من مشكلات اللغة الفصحى، لا سيما اللهجة المصرية، لكن في مصر لا توجد لهجة عامية واحدة، فما بالنا بكل البلدان العربية، ما يعنى أن استفحال اللهجات العامية واعتمادها بإفراط سيؤدى إلى التشويش، وربما قطع التواصل بين العرب من المحيط إلى الخليج.
وكان الأديب العالمي الكبير نجيب محفوظ واعيا لهذه المسألة، فكتب بلغة فصحى، وعاب على من يكتبون بالعامية، حتى في حال ضرورة يتطلبها جريان الحوار على ألسنة شخوص السرد وأبطاله، لأن من شأن هذا أن يحجب أعمالهم مع الزمن عن كثيرين، خاصة ممن لا يلمون بالعامية المصرية من القراء العرب.
ومثل هذا الأمر قد نجده في قصص يوسف إدريس على روعتها، إذ كان يضمنها لهجة عامية تعود إلى مسقط رأسه وهي قرية البيروم من أعمال محافظة الشرقية المصرية.
فبعض هذه الألفاظ قد غادر الآن بيئته المحلية، فما بالنا ببيئات محلية مصرية أخرى، وما بالنا أكثر ببيئات عربية بعيدة. وقد كان طه حسين منتبها إلى هذا، ولذا عاب على يوسف إدريس استعمال العامية في قصصه، وفعل الأمر نفسه مع غيره، لا سيما الكاتب المسرحي نعمان عاشور.
كما أن اللهجات العامية لم تعد صافية، مثلما كانت قبل ربع قرن مثلًا، بل دخلت عليها أخلاط من لغات أخرى. ويزيد على هذا أن هناك أجيالًا من خريجي المدارس الأجنبية في بلدان عربية، صارت غير قادرة على القراءة السليمة بالعربية، ولا الكتابة بها، وهؤلاء يتواصلون حتى في الحياة اليومية بالإنجليزية أو الفرنسية، أو على الأقل يمزجون تحدثهم العربية بكلمات أجنبية، وبعضهم قد يستوقفك بعد أن ينطق الكلمة الإنجليزية مثلا ليستوضح معناها بالعربية.
زاد على هذا أن اللغات الأجنبية ساحت في الأسواق والشوارع، وراحت تزيح اللغة العربية، أو تعمى عليها، في بلدان عدة، فلافتات المحال والحوانيت وأسماء الفنادق والملاعب في كثير من الحالات تكتب بالإنجليزية أو الفرنسية وغيرهما، وإن تواضع بعض التجار وأصحاب المصالح فصاروا يكتبون اللفظ الأجنبي بحروف عربية.
على الوجه الآخر، يعتني التعليم الديني، وعلى رأسه أو في قلبه، التعليم الأزهري في مصر، باللغة العربية عناية فائقة، لا سيما أن الملتحق بهذا المسار التعليمي عليه حفظ القرآن الكريم وألف حديث نبوي على الأقل، فضلًا عن ألفية ابن مالك النحوية، لكن هذا التعليم في حاجة إلى أن يطور عربيته، فيبتعد عن الألفاظ المهجورة أو المفردات التي تجاوزتها البيئة الاجتماعية، والساكنة في قلب القواميس والمعاجم القديمة.
وحاول الأدباء والصحفيون أن يطوروا لغة بسيطة، قادرة على إفهام أكبر قدر من القراء. وهناك من كان يتلقط ألفاظًا نظنها عامية ويلقيها في سطور نصوصه باعتبارها فصيحة بلا جدال، وعلى رأس هؤلاء الأديب يحيى حقي.
لكن المعنيين بتطوير اللغة العربية لتواكب التجدد والتمدن الذي يجرى بلا هوادة، لم يبذلوا الجهد الكافي الوافي في سبيل تهيئة العربية لتسعف الناطقين بها من المثقفين والمتعلمين في التعبير عن آرائهم، بل إن عوام الناس قد تجاوزوا ما تهديه إلى اللغة مؤسسات قائمة عليها، خصوصا مجامع اللغة العربية في بلدان عربية عدة.
الأدهى والأمرّ من هذا كله، أن الناس ينتجون بلاغتهم الشفاهية المتجددة، بينما يصر أغلب الكتاب على استعمال مجازات قديمة، كأن يقول أحدهم «القشة التي قصمت ظهر البعير»، بينما لم يعد البعير هو وسيلة النقل الأساسية في زمن السيارات والقطارات والطائرات، أو يصف أحدهم وجه المليحة بالقمر، والشجاع بالأسد، أو يقول آخر «سبق السيف العذل» في زمن أسلحته صار بعضها أسرع من الصوت.
يحدث هذا للفصحى بينما تحاول اللهجات العامية أن تلبى احتياج الناس عبر الاختزال والتخلي عن الالتزام بقواعد نحوية قد يصعب معها النطق السريع، كما تحلت العامية بالقدرة على التعبير عن الخيال الشعبي عبر الشعر العامي والنبطي مثلا، وكذلك عبر الأمثال والحكم والقصص والسير والملاحم والأغاني والمواويل وغيرها.
إن اللغة العربية تعيش محنة شديدة، فها هم أدباء لا يجيدون كتابتها، وقضاة لا يحسنون نطقها، وران عليها جمود في النحو والصرف، وزحفت عليها اللهجات العامية، وتفوقت في صنع مجازات مبتكرة، فيما يهملها تعليم أجنبي ساهم في اغترابها، وأدى إلى اختلاط كتابتها ونطقها بكلمات من لغات أخرى، وبذا صارت لغة الضاد تواجه تحديات شديدة، ويمضي عام تلو عام، ونفتحها كأي جرح جديد، لا يريد أن يندمل أبدا.
{ كاتب وباحث مصري
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك