منذ اندلاع الحرب في غزة في أكتوبر 2023، تابع المراقبون الغربيون الحرب الإسرائيلية الموسعة ضد طهران ووكلائها في المنطقة - وخاصة حزب الله - مع تحذيرات متكررة من خطر اتساع دائرة الحرب من خلال غزو عسكري إسرائيلي لجنوب لبنان؛ باعتباره سيناريو كارثيا لجميع الأطراف المعنية.
فقد شنت إسرائيل ضربات جوية وصاروخية متعددة ضد أهداف وأفراد من حزب الله، فضلًا عن تنفيذ اغتيالات في دمشق وطهران، ثم مددت هجماتها لضرب الحوثيين في اليمن. فجعلت تلك الاعتداءات المنطقة على وشك الانزلاق نحو حالة من الدمار الشامل، لكنها لم تجبر إيران وحلفاءها حتى الآن على التراجع، وبالتالي أخفقت إسرائيل في استعادة الردع الذي تحطم على أثر هجوم 7 أكتوبر 2023.
ورغم ذلك استمرت الممارسات العدوانية الإسرائيلية التي كان آخرها تفجير الأجهزة المستخدمة سرًّا في 17 سبتمبر 2024 والذي أعقبه في اليوم التالي انفجار المزيد من أجهزة الاتصال اللاسلكي باعتباره شكلًا مختلفًا تمامًا من أشكال التصعيد. وكتب بول آدامز المراسل الدبلوماسي لشبكة «بي بي سي»، أن ما حدث قد يدر بـ«عواقب مدمرة» على «القوى البشرية والاتصالات والمعنويات» لحزب الله؛ إذ لم يُصب الآلاف من الأفراد فحسب، بل حقيقة أن هذه الأجهزة انفجرت في وضح النهار مع وجود المدنيين -بمن فيهم الأطفال- أكدت كيف أن الجيش الإسرائيلي وأجهزة الاستخبارات مستعدون لقتل المدنيين الأبرياء؛ ليتمكنوا من إلحاق خسائر بالغة جسديا ونفسيا بأعدائهم، من دون قيود.
كما أثار توقيت هذه الضربات مخاوف جدية حيال نوايا إسرائيل اللاحقة؛ حيث أشار كولن كلارك من مركز صوفان بنيويورك، إلى أن السؤال الأبرز هو لماذا الآن. بينما لاحظ أندرو روث من صحيفة الغارديان إلى أن الهجوم قد جاء عقب إصرار يوآف جالانت وزير الدفاع الإسرائيلي على بقاء العمل العسكري، مؤكدًا أنه السبيل الوحيد أمام بلاده لإنهاء التهديدات لحدودها الشمالية.
ومن هذا المنطلق، أوضح روبرت وورث كاتب في شؤون الشرق الأوسط بمجلة ذي أتلانتيك، أن هذه الهجمات قد تؤدي إلى مقدمة حرب تشنها إسرائيل على حزب الله، مشيرًا إلى أن إسرائيل سبق أن استخدمت التقنيات الرقمية ضد أعضاء الحزب والجماعات غير الحكومية الأخرى المدعومة من إيران؛ لمحاولة تعطيل اتصالاتهم وتنظيماتهم، لكنه أقر كيف أن حجم الهجمات التي نفذت في سبتمبر 2024 لم يسبق أن رأيناه من قبل.
وأفادت نيويورك تايمز بأن الأجهزة التي يستخدمها أعضاء حزب الله في جميع أنحاء لبنان وسوريا تلقت رسالة بدت وكأنها قادمة من القيادة وبعد إصدارها صفارات الإنذار لعدة ثوانٍ انفجرت الأجهزة. وأشارت ألكسندرا شارب من مجلة فورين بوليسي إلى أن تنفيذ هذا التسلسل كان لزيادة احتمالية حدوث أقصى قدر من الإصابات، وأنه تم الإبلاغ عن وقوع أغلب الإصابات على أيدي الناس ووجوههم وبطونهم.
ورغم صعوبة اكتشاف المسؤول عن هذه الانفجارات بالطريقة نفسها التي كانت عليها الحال في الضربات الجوية والصاروخية السابقة؛ فقد بدا جليًا للمراسلين الغربيين تورط إسرائيل؛ حيث أقر آدامز بأنه لا توجد مجموعة أو دولة أخرى لديها الدافع أو القدرة على القيام بشيء من هذا القبيل غيرها.
ونظرًا إلى وقوع هذه الأجهزة في أيدي أعضاء حزب الله خارج إسرائيل عندما انفجرت، فقد دارت الكثير من التكهنات والتحقيقات حول كيفية تمكن إسرائيل من العبث بأجهزة الاتصال التي كانت تستخدم، فاستشهد كلارك بـ«فرضيات» لا حصر لها، بينما سجل وورث أن أجهزة النداء التي انفجرت كانت من إنتاج شركة مقرها تايوان تسمى جولد أبولو، لكن صحيفة الجارديان ذكرت أنها صُنعت في أوروبا.
وتوقع المحللان إميل هوكاييم، وفيربراتاب فيكرام سينغ من المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، أن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية لا بد أن تكون قد اعترضت شحنة من الأجهزة المتجهة إلى لبنان ووضعت متفجرات داخلها، وبالتالي حولتها إلى متفجرات بدائية الصنع. وفي حالة أجهزة اللاسلكي المحمولة باليد التي انفجرت أيضًا في الثامن عشر من سبتمبر، فإن كيفية وصول إسرائيل إليها لا تزال محاطة بالغموض؛ حيث زعمت الشركة اليابانية المصنعة لها عدم إنتاجها أي أجهزة جديدة مدة عقد كامل.
وبالنسبة إلى العواقب الوخيمة التي ستنجم عن هذه الهجمات، فقد أشار كلارك إلى أنها ستؤدي إلى تدمير إجراءات القيادة والسيطرة لحزب الله، وأضاف أنها قد أفصحت عن هوية أعضاء أو منتمي الحزب؛ مما قوض من جهوده الحثيثة للحفاظ على سرية هوية أعضائه، وهو ما اتضح في تأكيد وسائل الإعلام الغربية على اسم السفير الإيراني لدى لبنان كأحد مُصابي الهجوم.
ونتيجةً لذلك، توقع كلارك أن يقوم الحزب بـإصلاح شامل لجهاز الأمن الداخلي؛ مما يشير إلى احتمال تطهير داخلي للمخبرين المشتبه بهم، مما قد يشتت انتباه الجماعة في وقت قد يكون الجيش الإسرائيلي فيه مستعدًا لغزو جنوب لبنان. وأشار كلارك إلى أنها ستبدأ بالتأكيد في اتخاذ احتياطات أكبر ضد الهجمات الإسرائيلية على أنظمتها الاتصالية، والتي قد تؤثر سلبًا على قدرتها التنسيقية بين أفرادها بعضهم البعض.
وفي سياق تجاهل إسرائيل المتكرر للقانون الإنساني الدولي، كتب الدكتور لوكا ترينتا الأستاذ المشارك في العلاقات الدولية بجامعة سوانسي لمعهد الخدمات المتحدة الملكي (روسي)، أن الهجمات الإسرائيلية على شبكة اتصالات حزب الله انتهكت السيادة اللبنانية، واعتبرها ضربة أخرى بلا أي جهد للتمييز بين المدنيين والمقاتلين. كما أكد أن هذه الأعمال تُعتبر شكلًا من أشكال الحرب النفسية ضد حزب الله، وتهدف إلى إرهاب السكان المحليين. ولفت آدمز النظر إلى أن الانفجارات وقعت في أوقات مكتظة بالمدنيين؛ مما يبرز التزام الحكومة الإسرائيلية بتنفيذ العنف من دون مراعاة لمعاناة الأبرياء.
وما يزيد القلق هو تحذير كلارك من أن هذه الهجمات قد تكون انطلاقة لحملة عسكرية إسرائيلية مطولة ضد حزب الله. فعلى مدار الأشهر الماضية، كانت الحكومة الإسرائيلية تهدد بغزو عسكري للبنان، وتزامن هذا مع حديث نتنياهو عن استعادة توازن القوة على الحدود الشمالية، بينما أكد جالانت أن هناك مسارا واضحا نحو الحرب. كما أن إعادة انتشار فرق من الجيش الإسرائيلي على الحدود مع لبنان في الثامن عشر من سبتمبر، وما تلاها من ضربات جوية كبرى في اليوم التالي يعزز هذا التقييم. وقد حذر المعلقون الغربيون من أن صراعًا شاملًا في لبنان سيكون مدمرًا حتى بالنسبة إلى إسرائيل. وأشار كلارك إلى أن الحرب ضد حزب الله ستكون مختلفة تمامًا عن الحرب ضد حماس؛ نظرًا لأن المسلحين في لبنان أقرب إلى الجيش التقليدي ويُعتبرون من بين أكثر الجهات الفاعلة كفاءة وتدريبا.
ورغم فشل الجيش الإسرائيلي في تحقيق أهدافه في غزة، يبدو أن قادة إسرائيل وعلى رأسهم نتنياهو وحلفاؤه من اليمين المتطرف يعتقدون أن غزو جنوب لبنان سيكون سهلًا؛ مما قد يؤدي إلى خطأ استراتيجي كبير. وأكدت فيفيان يي من صحيفة نيويورك تايمز أن المزيد من العنف قد يتحول بسهولة إلى حرب إقليمية كبرى، والتي من شأنها أن تقزم الدمار الذي يجري حاليا في غزة.
وفي ظل تصاعد التوترات، يبدو أن حزب الله يشعر بأنه مضطر إلى الرد، كما يتضح من تعهد زعيمه حسن نصر الله بـعقاب عادل ضد إسرائيل. لكن يي أشارت إلى الضغوط التي تواجه قيادة الحزب لتجنب المزيد من الهجمات المدمرة؛ حيث أفادت بأن المواطنين الشيعة التقليديين الموالين للجماعة في جنوب لبنان أصبحوا يتساءلون بشكل متزايد عن جدوى القتال الحالي، ونتيجة لهذا فإن نصر الله يعلم أنه يتعين عليه أن يتخذ خطوات حذرة لأن الجماعة لا تريد صراعًا أوسع نطاقًا حتى لو أعلنت علنًا أن مقاتليها مستعدون لذلك.
على العموم، إذا كانت الهجمات الإسرائيلية على اتصالات حزب الله تمثل بداية تصعيد غير قابل للتراجع، فإن ذلك يثير تساؤلات حول دور حلفاء إسرائيل الغربيين في الحد من عدوانها. وأفاد باراك رافيد من موقع أكسيوس بأن حكومة نتنياهو لم تخبر إدارة بايدن بنواياها مسبقًا، بينما رفض جالانت إعطاء تفاصيل محددة لنظيره الأمريكي لويد أوستن؛ وهو ما أثار تساؤلات حول فقدان واشنطن مصداقيتها ونفوذها كطرف مؤثر في المنطقة وقوة خارجية تحاول تهدئة التوترات.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك