العدد : ١٧٠٦٨ - الأحد ١٥ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٤ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٦٨ - الأحد ١٥ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٤ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

نظرية الأخلاق عند الفيلسوف الأمريكي جون ديوي (2-٢)

بقلم: د. سامية الديك {

الجمعة ٠٩ يونيو ٢٠٢٣ - 02:00

يعلي‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الأمريكي‭ ‬جون‭ ‬ديوي‭ ‬من‭ ‬شأن‭ ‬العقل‭ ‬والمعرفة‭ ‬والتواصل‭ ‬الفكري،‭ ‬فيقول‭: ‬‮«‬إن‭ ‬معظم‭ ‬القيم‭ ‬الأخلاقية‭ ‬والميتافيزيقية‭ ‬والدينية‭ ‬التي‭ ‬دخلت‭ ‬في‭ ‬تكوين‭ ‬تراث‭ ‬الإنسان‭ ‬الحديث،‭ ‬إنما‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬أصلها‭ ‬قيم‭ ‬انحدرت‭ ‬من‭ ‬العلم،‭ ‬والبحث‭ ‬والذكاء،‭ ‬وكان‭ ‬دور‭ ‬البحث‭ ‬هو‭ ‬إضفاء‭ ‬النظام‭ ‬والاتساق‭ ‬على‭ ‬الخبرات‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬متصارعة‭ ‬متنافرة‮»‬‭ ‬وعليه‭ ‬نستنتج‭ ‬أن‭ ‬نظرة‭ ‬البراجماتية‭ ‬نظرة‭ ‬مادية‭ ‬ترى‭ ‬الأخلاق‭ ‬طبيعية‭ ‬ومن‭ ‬خلق‭ ‬الإنسان‭ ‬وكده،‭ ‬ونشأتها‭ ‬تجريبية‭ ‬بحتة‭ ‬غير‭ ‬خاضعة‭ ‬لأي‭ ‬قوة‭ ‬عليا‭. ‬وهي‭ ‬متطورة‭ ‬ومتغيرة‭ ‬لا‭ ‬ثابتة‭ ‬وليست‭ ‬قائمة‭ ‬بالقواعد‭ ‬التي‭ ‬لابد‭ ‬من‭ ‬تطبيقها‭ ‬مثلما‭ ‬نطبق‭ ‬الوصفات‭ ‬الطبية‭ ‬أو‭ ‬طرق‭ ‬الطهي‭ ‬فعدم‭ ‬ثباتها‭ ‬يعود‭ ‬بفضل‭ ‬خلق‭ ‬الإنسان‭ ‬وتجربته‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬وتبعا‭ ‬للظروف‭ ‬والمواقف‭ ‬

والمصلحة‭ ‬والمنفعة‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬موافقة‭ ‬للرأي‭ ‬العام‭.. ‬فتحقيق‭ ‬الخير‭ ‬أو‭ ‬الإصلاح‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬الا‭ ‬بامتزاج‭ ‬بين‭ ‬القوى‭ ‬الداخلية‭ ‬للإنسان‭ ‬والخارجية‭. ‬

فالقيمة‭ ‬هي‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬له‭ ‬سلطة‭ ‬في‭ ‬توجيه‭ ‬السلوك‭ ‬وإن‭ ‬الشر‭ ‬عنده‭ ‬ليست‭ ‬مشكلة‭ ‬لاهوتية‭ ‬ولا‭ ‬ميتافيزيقية‭ ‬بل‭ ‬عملية،‭ ‬والأخلاق‭ ‬والخيرية‭ ‬عنده‭ ‬تتخذ‭ ‬طابعا‭ ‬شموليا،‭ ‬فلا‭ ‬فرق‭ ‬عنده‭ ‬بين‭ ‬خير‭ ‬الفكر،‭ ‬وخير‭ ‬السلوك،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬الفاعلية‭ ‬الإنسانية‭ ‬وحدة‭ ‬لا‭ ‬تتجزأ‭ ‬ويرى‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬توجد‭ ‬غايات‭ ‬أخلاقية‭ ‬إلا‭ ‬حينما‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬عمل،‭ ‬وطالما‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬العمل‭ ‬فهناك‭ ‬شرور،‭ ‬ وبالتالي‭ ‬فإن‭ ‬الخير‭ ‬الذي‭ ‬يتطلبه‭ ‬الموقف‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬يتخذ‭ ‬صورة‭ ‬نسق‭ ‬أخلاقي‭ ‬يكون‭ ‬علينا‭ ‬الاهتداء‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬العيوب‭ ‬الحالية‭ ‬وقام‭ ‬بإعادة‭ ‬بناء‭ ‬الأخلاق،‭ ‬ونظرية‭ ‬المعرفة‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬نزعته‭ ‬التجريبية‭ ‬الطبيعية،‭ ‬فكل‭ ‬أحكام‭ ‬القيمة‭ ‬والأخلاق‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬توضع‭ ‬على‭ ‬قاعدة‭ ‬من‭ ‬العلم‭ ‬ونادى‭ ‬بضرورة‭ ‬أن‭ ‬تبدأ‭ ‬الأخلاق‭ ‬من‭ ‬الواقع‭ ‬ورفض‭ ‬القول‭ ‬بالخير‭ ‬المطلق‭ ‬أو‭ ‬الشر‭ ‬المطلق‭.‬

وبيَّن‭ ‬كذلك‭ ‬أن‭ ‬الأخلاق‭ ‬معنية‭ ‬بالسلوك‭ ‬ونقد‭ ‬التفرقة‭ ‬الحاسمة‭ ‬بين‭ ‬دوافع‭ ‬العمل‭ ‬وعواقبه‭ ‬وبين‭ ‬الأخلاق‭ ‬والسلوك‭. ‬فعارض‭ ‬مذهب‭ ‬اللذة‭ ‬الحسية‭ ‬الذي‭ ‬اعتبر‭ ‬امتلاك‭ ‬المثل‭ ‬العليا‭ ‬السائدة‭ ‬جوهر‭ ‬الأخلاق‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬تشكل‭ ‬قوة‭ ‬دافعة‭ ‬في‭ ‬العالم‭.. ‬وعارض‭ ‬مذهب‭ ‬المنفعة‭ ‬التي‭ ‬ترى‭ ‬أن‭ ‬المهم‭ ‬خلقيا‭ ‬ليس‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬بداخل‭ ‬وعي‭ ‬الإنسان‭ ‬بل‭ ‬بما‭ ‬يفعله‭ ‬أو‭ ‬يصنعه‭ ‬أو‭ ‬العواقب‭ ‬التي‭ ‬تصدر‭ ‬عنه،‭ ‬لأن‭ ‬ما‭ ‬يدفعنا‭ ‬إلى‭ ‬العمل‭ ‬ليس‭ ‬الربح‭ ‬والخسارة،‭ ‬وإنما‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬التعقيدات‭ ‬القائمة‭ ‬لإحداث‭ ‬انسجام‭ ‬مع‭ ‬البيئة‭. ‬وأكد‭ ‬مهمة‭ ‬التروي‭ ‬والتبصر‭ ‬في‭ ‬تقدير‭ ‬مسالك‭ ‬العمل‭.‬

من‭ ‬هنا‭ ‬نرى‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬توفر‭ ‬نشاط‭ ‬متعاقب‭ ‬يجسد‭ ‬اهتمام‭ ‬الطالب‭ ‬بحيث‭ ‬تنجم‭ ‬عنه‭ ‬نتيجة‭ ‬محددة‭ ‬لا‭ ‬يكفي‭ ‬لإحداثها‭ ‬العادات‭ ‬الروتينية‭ ‬والإرشادات‭ ‬المملاة‭ ‬ولا‭ ‬التصرفات‭ ‬التخمينية‭ ‬المرتجلة‭ ‬بل‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬القيام‭ ‬بهدف‭ ‬واع‭ ‬ورغبة‭ ‬واعية‭ ‬وتفكير‭ ‬متدبر‭.‬

فالذات‭ ‬والاهتمام‭ ‬أو‭ ‬المصلحة‭ ‬اسمان‭ ‬لواقعة‭ ‬واحدة‭ ‬عند‭ ‬الفيلسوف‭ ‬جون‭ ‬ديوي،‭ ‬ويرى‭ ‬أن‭ ‬الإنسان‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬مجابهة‭ ‬التحديات‭ ‬والصعاب‭ ‬والتغلب‭ ‬عليها‭ ‬مثار‭ ‬اهتمامه‭. ‬ونقد‭ ‬النظريتين‭ ‬المرتبطتين‭ ‬أساسا‭ ‬بفصل‭ ‬المعرفة‭ ‬عن‭ ‬النشاط‭ ‬وبالتالي‭ ‬عن‭ ‬الأخلاق‭ ‬وهما‭ ‬النظريتان‭ ‬اللتان‭ ‬فصلا‭ ‬الاستعداد‭ ‬الداخلي‭ ‬والدوافع‭ (‬العامل‭ ‬الشخصي‭ ‬الواعي‭) ‬عن‭ ‬الأفعال‭ (‬العامل‭ ‬الخارجي‭ ‬المادي‭ ‬الخالص‭) ‬وتقابل‭ ‬العمل‭ ‬بدافع‭ ‬المصلحة‭ ‬عن‭ ‬العمل‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬مبدأ‭. ‬

وفي‭ ‬ضوء‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬للتعلم‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬مصاحبا‭ ‬للأنشطة‭ ‬ذات‭ ‬الهدف‭ ‬الاجتماعي‭ ‬لتغدو‭ ‬المدرسة‭ ‬صورة‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬ومجتمعا‭ ‬مصغرا‭ ‬ذا‭ ‬تفاعل‭ ‬وثيق‭ ‬مع‭ ‬الألوان‭ ‬الأخرى‭ ‬من‭ ‬الخبرة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬خارج‭ ‬جدران‭ ‬المدرسة‭. ‬وكل‭ ‬تربية‭ ‬تنمي‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬هي‭ ‬تربية‭ ‬خلقية‭ ‬لأنها‭ ‬تشكل‭ ‬الطبع‭ ‬الذي‭ ‬يتيح‭ ‬التكيف‭ ‬المطرد‭ ‬الذي‭ ‬هو‭ ‬أمر‭ ‬جوهري‭ ‬للنمو‭.‬

فالاهتمام‭ ‬بالتعلم‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬كل‭ ‬اتصالات‭ ‬الحياة‭ ‬هو‭ ‬الاهتمام‭ ‬الخلقي‭ ‬الجوهري،‭ ‬فمن‭ ‬يجعل‭ ‬الخلقيات‭ ‬مسألة‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬لها‭ ‬بالمعرفة‭ ‬أو‭ ‬جعل‭ ‬الضمير‭ ‬مختلفا‭ ‬عن‭ ‬الوعي‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬التربية‭ ‬الخلقية‭ ‬بالمدرسة‭ ‬أمرا‭ ‬ميئوسا‭ ‬منها‭ ‬عمليا‭ ‬يهبط‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬التعليم‭ ‬التلقيني‭ ‬الجامد‭ ‬أو‭ ‬دروس‭ ‬أخلاق‭ ‬لا‭ ‬تغدو‭ ‬فضائل‭ ‬وواجبات‭ ‬لا‭ ‬تؤثر‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬مجموعات‭ ‬اجتماعية‭ ‬نظرا‭ ‬إلى‭ ‬تنمية‭ ‬الطبع‭ ‬أو‭ ‬الخلق‭ ‬وجعله‭ ‬غاية‭ ‬عليا‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬جعل‭ ‬اكتساب‭ ‬المعرفة‭ ‬وتنمية‭ ‬الفهم‭ ‬يشغلان‭ ‬الجانب‭ ‬الأكبر‭ ‬من‭ ‬وقت‭ ‬المدرسة‭ ‬وعلينا‭ ‬أن‭ ‬ندرك‭ ‬أن‭ ‬الخير‭ ‬لا‭ ‬يتحصله‭ ‬الإنسان‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬ولا‭ ‬من‭ ‬الآخرين‭ ‬بل‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬التربية‭ ‬طويلة‭ ‬الأمد‭ ‬فهي‭ ‬الثمرة‭ ‬النهائية‭ ‬التي‭ ‬تتوج‭ ‬الخبرة‭ ‬الناضجة‭ ‬بالحياة‭ ‬وأن‭ ‬المعرفة‭ ‬قد‭ ‬تجد‭ ‬ثمرتها‭ ‬المباشرة‭ ‬في‭ ‬السلوك‭ ‬فلا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬الحرص‭ ‬على‭ ‬وجود‭ ‬ارتباط‭ ‬حيوي‭ ‬بين‭ ‬المعرفة‭ ‬والنشاط‭ ‬لتغدو‭ ‬معرفة‭ ‬خلقية‭ ‬تبني‭ ‬اهتماما‭ ‬اجتماعيا‭ ‬وتمنح‭ ‬الذكاء‭ ‬المطلوب‭ ‬لجعل‭ ‬الاهتمام‭ ‬مجال‭ ‬الممارسة‭.‬

فالأخلاق‭ ‬تتعلق‭ ‬بالطبع‭ ‬بأسره‭ ‬والطبع‭ ‬بأسره‭ ‬هو‭ ‬الإنسان‭ ‬بكل‭ ‬مكوناته‭ ‬وامتلاك‭ ‬الفضيلة‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لك‭ ‬بضع‭ ‬سمات‭ ‬دون‭ ‬سواها‭ ‬بل‭ ‬معناه‭ ‬تكوين‭ ‬ارتباط‭ ‬اجتماعي‭ ‬مع‭ ‬الآخرين‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مهام‭ ‬الحياة‭. ‬وختاما‭ ‬نقول‭ ‬إن‭ ‬هنالك‭ ‬قولا‭ ‬قديما‭ ‬مفاده‭ ‬إنه‭ ‬لا‭ ‬يكفي‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬المرء‭ ‬صالحا‭ ‬بل‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬صالحا‭ ‬لشيء‭ ‬ما‭ ‬وهذا‭ ‬الشي‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬المرء‭ ‬صالحا‭ ‬له‭ ‬هو‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬الحياة‭ ‬كعضو‭ ‬اجتماعي‭ ‬بحيث‭ ‬إن‭ ‬ما‭ ‬يحصل‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬مع‭ ‬الآخرين‭ ‬يتوازن‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬يسهم‭ ‬به‭ ‬وما‭ ‬يأخذه‭ ‬ويعطيه‭ ‬ككائن‭ ‬بشري‭ ‬ولا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬تعزيز‭ ‬التربية‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬الحياة‭ ‬وتعزيز‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬التربية‭ ‬هو‭ ‬جوهر‭ ‬الأخلاق‭ ‬فالحياة‭ ‬الواعية‭ ‬هي‭ ‬التجدد‭ ‬المتصل‭ ‬دائما‭.‬

 

{‭ ‬دكتوراه‭ ‬في‭ ‬القيادة‭ ‬والإدارة‭ ‬

التربوية‭ ‬–‭ ‬جامعة‭ ‬القدس

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا