العدد : ١٧٠٦٨ - الأحد ١٥ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٤ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٦٨ - الأحد ١٥ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٤ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

شرق و غرب

الخطاب السياسي الغربي بين الواقعية والليبرالية المتوحشة

بقلم: جون ميرشهيمر

السبت ١٣ يوليو ٢٠٢٤ - 02:00

عندما‭ ‬نستمع‭ ‬إلى‭ ‬الخطابات‭ ‬السائدة‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬فإننا‭ ‬قد‭ ‬نتوهم‭ ‬أن‭ ‬السياسة‭ ‬الخارجية‭ ‬الغربية‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬جوهرها‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬تصدير‭ ‬الديمقراطية‭ ‬الليبرالية‭ ‬والقانون‭ ‬إلى‭ ‬بقية‭ ‬دول‭ ‬العالم‭ ‬الأخرى‭. ‬إن‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬القوى‭ ‬والدول‭ ‬تخضع‭ ‬لاعتبارات‭ ‬سياسية‭ ‬وأخرى‭ ‬استراتيجية‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬المثل‭ ‬الغربية‭ ‬الرفيعة‭. ‬

قبل‭ ‬ثلاثين‭ ‬عامًا‭ ‬من‭ ‬الآن،‭ ‬أكد‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الخبراء‭ ‬الغربيين‭ ‬أن‭ ‬التاريخ‭ ‬قد‭ ‬انتهى‭ ‬وأن‭ ‬المواجهة‭ ‬بين‭ ‬القوى‭ ‬العظمى‭ ‬أصبحت‭ ‬شيئًا‭ ‬من‭ ‬الماضي‭. ‬هذا‭ ‬الوهم‭ ‬لم‭ ‬يصمد‭ ‬أمام‭ ‬اختبار‭ ‬الزمن‭.‬

هناك‭ ‬اليوم‭ ‬صراعان‭ ‬من‭ ‬صراعات‭ ‬القوى‭ ‬العظمى‭ ‬يهددان‭ ‬بالتصعيد‭ ‬إلى‭ ‬حرب‭ ‬مفتوحة‭: ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬ضد‭ ‬روسيا‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬الشرقية‭ ‬بسبب‭ ‬أوكرانيا،‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬ضد‭ ‬الصين‭ ‬في‭ ‬شرق‭ ‬آسيا‭ ‬بشأن‭ ‬تايوان‭. ‬أدت‭ ‬التغييرات‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬الدولية‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬إلى‭ ‬تدهور‭ ‬موقف‭ ‬الغرب‭ ‬بشكل‭ ‬غير‭ ‬مسبوق‭. ‬

ماذا‭ ‬حدث؟‭ ‬إلى‭ ‬أين‭ ‬نحن‭ ‬ذاهبون؟‭ ‬تتطلب‭ ‬الإجابة‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة‭ ‬نظرية‭ ‬في‭ ‬العلاقات‭ ‬الدولية‭ ‬تضفي‭ ‬معنى‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬الفوضوي‭ ‬والغامض‭ ‬وإطارًا‭ ‬عامًا‭ ‬لشرح‭ ‬سبب‭ ‬تصرف‭ ‬الدول‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النحو‭. ‬إن‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬بنظرية‭ ‬‮«‬الواقعية‮»‬‭ ‬هي‭ ‬أفضل‭ ‬أداة‭ ‬متاحة‭ ‬لفهم‭ ‬السياسة‭ ‬الدولية‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الراهن‭.‬

ما‭ ‬افتراضات‭ ‬هذه‭ ‬السياسة‭ ‬الواقعية؟‭ ‬تتعايش‭ ‬الدول‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬خالٍ‭ ‬من‭ ‬سلطة‭ ‬عليا‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬حمايتها‭ ‬من‭ ‬بعضها‭ ‬البعض‭. ‬هذا‭ ‬الموقف‭ ‬يجبرها‭ ‬على‭ ‬الاهتمام‭ ‬بتطور‭ ‬علاقات‭ ‬القوة،‭ ‬لأن‭ ‬أدنى‭ ‬ضعف‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يجعلها‭ ‬عرضة‭ ‬للخطر‭. ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬فإن‭ ‬المنافسة‭ ‬على‭ ‬رقعة‭ ‬الشطرنج‭ ‬لا‭ ‬تمنع‭ ‬هذه‭ ‬القوى‭ ‬من‭ ‬التعاون‭ ‬عندما‭ ‬تتوافق‭ ‬مصالحها‭.‬

ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭ ‬فإن‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬الدول‭ - ‬وخاصة‭ ‬بين‭ ‬القوى‭ ‬العظمى‭ - ‬تخضع‭ ‬بشكل‭ ‬أساسي‭ ‬لمبدأ‭ ‬المنافسة‭. ‬في‭ ‬نظرية‭ ‬الواقعية،‭ ‬تمثل‭ ‬الحرب‭ ‬أداة‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬أدوات‭ ‬الحكم‭ ‬من‭ ‬بين‭ ‬أدوات‭ ‬أخرى،‭ ‬تلجأ‭ ‬إليها‭ ‬الدول‭ ‬لتعزيز‭ ‬موقعها‭ ‬الاستراتيجي‭. ‬هذا‭ ‬يفسر‭ ‬الصيغة‭ ‬الشهيرة‭ ‬لكارل‭ ‬فون‭ ‬كلاوزفيتز‭ ‬عندما‭ ‬قال‭: ‬‮«‬الحرب‭ ‬استمرار‭ ‬بسيط‭ ‬للسياسة‭ ‬بوسائل‭ ‬أخرى‮»‬

الواقعية‭ ‬ليس‭ ‬لديها‭ ‬صحافة‭ ‬جيدة‭ ‬في‭ ‬الغرب،‭ ‬حيث‭ ‬يُنظر‭ ‬إلى‭ ‬الحرب‭ ‬عمومًا‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬الملاذ‭ ‬الأخير‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تبريره‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬النفس؛‭ ‬والذي‭ ‬يتوافق‭ ‬أيضًا‭ ‬مع‭ ‬ميثاق‭ ‬منظمة‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭.‬

تثير‭ ‬النظرية‭ ‬السياسية‭ ‬الواقعية‭ ‬رفضًا‭ ‬أكبر‭ ‬لأنها‭ ‬تستند‭ ‬إلى‭ ‬بديهية‭ ‬متشائمة‭: ‬فكرة‭ ‬أن‭ ‬المنافسة‭ ‬بين‭ ‬القوى‭ ‬العظمى‭ ‬تشكل‭ ‬حقيقة‭ ‬غير‭ ‬ملموسة،‭ ‬وقانون‭ ‬للوجود‭ ‬محكوم‭ ‬عليه‭ ‬حتما‭ ‬أن‭ ‬يولد‭ ‬المآسي‭ ‬وعواقب‭ ‬وخيمة‭ ‬للإنسانية‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬تجلى‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬التاريخ‭ ‬القديم‭ ‬والحديث‭. ‬

بعبارة‭ ‬أخرى،‭ ‬جميع‭ ‬الدول‭ - ‬ديمقراطية‭ ‬كانت‭ ‬أم‭ ‬شمولية‭ ‬واستبدادية‭ - ‬تخضع‭ ‬لنفس‭ ‬المنطق‭. ‬في‭ ‬الغرب،‭ ‬تتمثل‭ ‬وجهة‭ ‬النظر‭ ‬السائدة‭ ‬بالأحرى‭ ‬في‭ ‬فهرسة‭ ‬الميل‭ ‬إلى‭ ‬المنافسة‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬طبيعة‭ ‬النظام‭. ‬تميل‭ ‬الديمقراطيات‭ ‬الليبرالية‭ ‬بطبيعتها‭ ‬إلى‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬السلام،‭ ‬بينما‭ ‬ستكون‭ ‬الأنظمة‭ ‬الاستبدادية‭ ‬هي‭ ‬دعاة‭ ‬الحرب‭ ‬الرئيسيين‭. ‬هكذا‭ ‬يفكر‭ ‬الغرب‭. ‬

لذلك‭ ‬لا‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬نفاجأ‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬النظرية‭ ‬الليبرالية،‭ ‬المصممة‭ ‬على‭ ‬عكس‭ ‬الواقعية،‭ ‬هي‭ ‬المفضلة‭ ‬في‭ ‬الغرب‭. ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬قد‭ ‬تصرفت‭ ‬دائمًا‭ ‬تقريبًا‭ ‬وفقًا‭ ‬لإملاءات‭ ‬السياسة‭ ‬الواقعية،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬يعني‭ ‬تغليف‭ ‬أفعالها‭ ‬في‭ ‬خطاب‭ ‬أكثر‭ ‬أخلاقية‭.  ‬

طوال‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة،‭ ‬دعمت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الحكام‭ ‬المستبدين‭ ‬عديمي‭ ‬الضمير،‭ ‬مثل‭ ‬شيانغ‭ ‬كاي‭ ‬شيك‭ ‬في‭ ‬الصين،‭ ‬ومحمد‭ ‬رضا‭ ‬بهلوي‭ ‬في‭ ‬إيران،‭ ‬وري‭ ‬سينغمان‭ ‬في‭ ‬كوريا‭ ‬الجنوبية،‭ ‬وموبوتو‭ ‬سيسي‭ ‬سيكو‭ ‬في‭ ‬زائير،‭ ‬وأناستازيو‭ ‬سوموزا‭ ‬في‭ ‬نيكاراغوا،‭ ‬وأوغستو‭ ‬بينوشيه‭ ‬في‭ ‬تشيلي‭ ‬والأمثلة‭ ‬كثيرة‭. ‬

ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬شهدت‭ ‬هذه‭ ‬السياسة‭ ‬قوسًا‭ ‬ملحوظًا‭: ‬تلك‭ ‬الخاصة‭ ‬بـ«اللحظة‭ ‬أحادية‭ ‬القطب‮»‬‭ ‬من‭ ‬1991‭ ‬إلى‭ ‬2017،‭ ‬عندما‭ ‬تخلت‭ ‬الحكومات‭ ‬الأمريكية،‭ ‬الديموقراطية‭ ‬والجمهورية‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء،‭ ‬عن‭ ‬الواقعية‭ ‬الجيوسياسية‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬لفرض‭ ‬نظام‭ ‬عالمي‭ ‬قائم‭ ‬على‭ ‬قيم‭ ‬الليبرالية‭. ‬الديمقراطية‭ - ‬حكم‭ ‬القانون‭ ‬واقتصاد‭ ‬السوق‭ ‬وحقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬تحت‭ ‬سلطة‭ ‬واشنطن‭ ‬العطوفة‭.‬

منيت‭ ‬استراتيجية‭ ‬‮«‬الهيمنة‭ ‬الليبرالية‮»‬‭ ‬بالفشل‭ ‬الذريع‭ ‬ولعبت‭ ‬دورًا‭ ‬مهمًا‭ ‬في‭ ‬ظهور‭ ‬العالم‭ ‬المثخن‭ ‬بالجراح‭ ‬الذي‭ ‬نعرفه‭ ‬ونعيشه‭ ‬اليوم‭. ‬فلو‭ ‬اختار‭ ‬الحكام‭ ‬الأمريكيون‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1989‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة،‭ ‬انتهاج‭ ‬سياسة‭ ‬خارجية‭ ‬واقعية،‭ ‬لكان‭ ‬كوكبنا‭ ‬وعالمنا‭ ‬بلا‭ ‬شك‭ ‬مكانًا‭ ‬أقل‭ ‬خطورة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير‭ ‬اليوم‭.‬

مكن‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬الواقعية‭ ‬بعدة‭ ‬طرق‭. ‬وفقًا‭ ‬لما‭ ‬يسمى‭ ‬بالنظرية‭ ‬‮«‬الكلاسيكية‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬ذكرها‭ ‬المنظر‭ ‬الأمريكي‭ ‬هانز‭ ‬مورجنثاو،‭ ‬فإن‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬السلطة‭ ‬متأصلة‭ ‬في‭ ‬الطبيعة‭ ‬البشرية‭.‬

كما‭ ‬قال‭ ‬إن‭ ‬الزعماء‭ ‬مدفوعون‭ ‬بدافع‭ ‬العداء،‭ ‬وهو‭ ‬دافع‭ ‬فطري‭ ‬للسيطرة‭ ‬على‭ ‬إخوانهم‭ ‬من‭ ‬الرجال‭. ‬يمكن‭ ‬للجميع‭ ‬تشكيل‭ ‬نظريتهم‭ ‬الخاصة‭ ‬حول‭ ‬هذا‭ ‬الموضوع‭. ‬في‭ ‬نظري،‭ ‬تكمن‭ ‬القوة‭ ‬الدافعة‭ ‬للمنافسة‭ ‬بين‭ ‬الدول‭ ‬قبل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬بنية‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬نفسه‭.‬

هذا‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬يحفز‭ ‬الدول‭ - ‬وخاصة‭ ‬القوى‭ ‬العظمى‭- ‬على‭ ‬الانخراط‭ ‬في‭ ‬منافسة‭ ‬شرسة‭ ‬لتجد‭ ‬نفسها‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬سجينة‭ ‬في‭ ‬قفص‭ ‬حديدي‭.‬

بادئ‭ ‬ذي‭ ‬بدء،‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نتذكر‭ ‬أن‭ ‬القوى‭ ‬العظمى‭ ‬تعمل‭ ‬ضمن‭ ‬نظام‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬فيه‭ ‬حام‭ ‬يلجأ‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬وجود‭ ‬تهديد‭ ‬من‭ ‬دولة‭ ‬منافسة‭.‬

لذلك‭ ‬يجب‭ ‬على‭ ‬الجميع‭ ‬الاعتناء‭ ‬بأنفسهم‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬يحكمه‭ ‬مبدأ‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬النفس‭. ‬ويزداد‭ ‬هذا‭ ‬القيد‭ ‬صعوبة‭ ‬بسبب‭ ‬جانبين‭ ‬آخرين‭ ‬من‭ ‬جوانب‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭. ‬تمتلك‭ ‬جميع‭ ‬القوى‭ ‬العظمى‭ ‬قدرات‭ ‬عسكرية‭ ‬هجومية‭ ‬هائلة،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬بعضها‭ ‬يمتلك‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬غيرها،‭ ‬مما‭ ‬يعني‭ ‬أنها‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تسبب‭ ‬أضرارًا‭ ‬كبيرة‭ ‬لدولة‭ ‬معينة‭ ‬ولبعضها‭ ‬البعض‭.‬

كما‭ ‬أنه‭ ‬من‭ ‬الصعب،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬من‭ ‬المستحيل،‭ ‬التأكد‭ ‬من‭ ‬أنها‭ ‬تسعى‭ ‬وراء‭ ‬النوايا‭ ‬السلمية،‭ ‬لأن‭ ‬النوايا،‭ ‬على‭ ‬عكس‭ ‬القدرات‭ ‬العسكرية،‭ ‬تكمن‭ ‬في‭ ‬أذهان‭ ‬القادة‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬فهمها‭ ‬تمامًا‭. ‬إن‭ ‬توقع‭ ‬ما‭ ‬ستفعله‭ ‬دولة‭ ‬معينة‭ ‬في‭ ‬المستقبل‭ ‬هو‭ ‬أكثر‭ ‬خطورة،‭ ‬لأنه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬لأحد‭ ‬أن‭ ‬يتنبأ‭ ‬بمن‭ ‬سيكون‭ ‬مسؤولاً،‭ ‬ولا‭ ‬ماذا‭ ‬ستكون‭ ‬نواياهم‭ ‬إذا‭ ‬تغيرت‭ ‬الظروف‭ ‬والسياقات‭ ‬الدولية‭.‬

إن‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬تعمل‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬حيث‭ ‬يمكنها‭ ‬الاعتماد‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬نفسها‭ ‬وتخاطر‭ ‬بمواجهة‭ ‬منافس‭ ‬قوي‭ ‬ومعاد‭ ‬ستكون‭ ‬بالضرورة‭ ‬خائفة‭ ‬من‭ ‬بعضها‭ ‬البعض،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬شدة‭ ‬خوفها‭ ‬تختلف‭ ‬من‭ ‬حالة‭ ‬إلى‭ ‬أخرى‭.‬

في‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬المحفوف‭ ‬بالمخاطر،‭ ‬فإن‭ ‬أفضل‭ ‬طريقة‭ ‬للبقاء‭ ‬كدولة‭ ‬عقلانية‭ ‬هي‭ ‬التأكد‭ ‬من‭ ‬أنها‭ ‬ليست‭ ‬دولة‭ ‬ضعيفة‭. ‬أظهرت‭ ‬تجربة‭ ‬الصين‭ ‬خلال‭ ‬‮«‬قرن‭ ‬من‭ ‬الإذلال‭ ‬القومي‮»‬‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1839‭ ‬إلى‭ ‬عام‭ ‬1949‭ ‬أن‭ ‬الدول‭ ‬الأكثر‭ ‬قوة‭ ‬تميل‭ ‬إلى‭ ‬الاستفادة‭ ‬من‭ ‬ضعف‭ ‬الآخرين‭. ‬دوليًا،‭ ‬من‭ ‬الأفضل‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬غودزيلا‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬البامبي‭.‬

يبدو‭ ‬أن‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬استثناء‭ ‬من‭ ‬القاعدة،‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬الظاهر‭ ‬فقط‭. ‬ولد‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬تحت‭ ‬حماية‭ ‬المظلة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬الصراع‭ ‬العسكري‭ ‬بين‭ ‬الدول‭ ‬الأعضاء‭ ‬مستحيلاً‭ ‬وحررها‭ ‬من‭ ‬الخوف‭ ‬الذي‭ ‬تسبب‭ ‬فيه‭.‬

يفسر‭ ‬هذا‭ ‬السبب‭ ‬جزئيًا‭ ‬سبب‭ ‬تخوف‭ ‬القادة‭ ‬الأوروبيين‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬الأطراف‭ ‬من‭ ‬رؤية‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬تبتعد‭ ‬عن‭ ‬قارتهم‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬التركيز‭ ‬بشكل‭ ‬أفضل‭ ‬على‭ ‬آسيا‭.‬

باختصار،‭ ‬تتميز‭ ‬سياسات‭ ‬القوى‭ ‬العظمى‭ ‬بمنافسة‭ ‬أمنية‭ ‬عنيدة‭ ‬لأن‭ ‬كل‭ ‬دولة‭ ‬لا‭ ‬تسعى‭ ‬فقط‭ ‬إلى‭ ‬اكتساب‭ ‬نفوذ‭ ‬نسبي،‭ ‬ولكن‭ ‬أيضًا‭ ‬لمنع‭ ‬ميزان‭ ‬القوى‭ ‬من‭ ‬الانقلاب‭ ‬ضدها‭.‬

يمكن‭ ‬تحقيق‭ ‬هذا‭ ‬الهدف،‭ ‬المعروف‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬التوازن‮»‬،‭ ‬إما‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬زيادة‭ ‬قوتها،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تحالف‭ ‬مع‭ ‬دول‭ ‬أخرى‭ ‬مهددة‭ ‬بالمثل‭.‬

في‭ ‬عالم‭ ‬واقعي،‭ ‬يتم‭ ‬تقييم‭ ‬قوة‭ ‬دولة‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬المقام‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬قدراتها‭ ‬العسكرية،‭ ‬والتي‭ ‬تعتمد‭ ‬على‭ ‬اقتصاد‭ ‬متقدم‭ ‬وعدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬السكان‭.‬

وبالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬دولة‭ ‬تطمح‭ ‬إلى‭ ‬دور‭ ‬قوة‭ ‬عظمى،‭ ‬فإن‭ ‬الوضع‭ ‬المثالي‭ ‬يتكون‭ ‬أولاً‭ ‬وقبل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬في‭ ‬كونها‭ ‬قوة‭ ‬إقليمية،‭ ‬أي‭ ‬في‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬الجزء‭ ‬من‭ ‬العالم‭ ‬الذي‭ ‬تنتمي‭ ‬إليه،‭ ‬مع‭ ‬ضمان‭ ‬عدم‭ ‬وجود‭ ‬قوة‭ ‬أخرى،‭ ‬متوسطة‭ ‬أو‭ ‬كبيرة،‭ ‬تعارض‭ ‬هذه‭ ‬الهيمنة‭.‬

تقدم‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬توضيحًا‭ ‬مثاليًا‭ ‬لهذا‭ ‬المنطق‭. ‬خلال‭ ‬القرنين‭ ‬الثامن‭ ‬عشر‭ ‬والتاسع‭ ‬عشر،‭ ‬عملت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬أولا‭ ‬بجد‭ ‬لترسيخ‭ ‬هيمنتها‭ ‬على‭ ‬القارة‭ ‬الأمريكية‭.‬

في‭ ‬القرن‭ ‬الذي‭ ‬تلا‭ ‬ذلك،‭ ‬أي‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين،‭ ‬تمكنت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬من‭ ‬منع‭ ‬الإمبراطوريتين‭ ‬الجرمانية‭ ‬واليابانية،‭ ‬ثم‭ ‬ألمانيا‭ ‬النازية‭ ‬والاتحاد‭ ‬السوفيتي،‭ ‬من‭ ‬فرض‭ ‬نفسها‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬القوى‭ ‬الإقليمية‭ ‬الوحيدة‭ ‬في‭ ‬آسيا‭ ‬وأوروبا‭.‬

إن‭ ‬الهدف‭ ‬الأساسي‭ ‬لأي‭ ‬دولة‭ ‬هو‭ ‬البقاء،‭ ‬لأنه‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬تحي‭ ‬الدولة‭ ‬فلا‭ ‬يمكنها‭ ‬أن‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬هدف‭ ‬آخر‭. ‬قد‭ ‬يبدو‭ ‬إنتاج‭ ‬الثروة‭ ‬أو‭ ‬نشر‭ ‬أيديولوجية‭ ‬ما‭ ‬أولوية‭ ‬بالنسبة‭ ‬لها،‭ ‬ولكن‭ ‬بشرط‭ ‬ألا‭ ‬تؤثر‭ ‬هذه‭ ‬الأهداف‭ ‬في‭ ‬فرصه‭ ‬في‭ ‬البقاء‭.‬

وبالمثل،‭ ‬يمكن‭ ‬للقوى‭ ‬العظمى‭ ‬أن‭ ‬تتعاون‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬تشترك‭ ‬في‭ ‬مصالح‭ ‬مشتركة‭ ‬ولا‭ ‬يؤدي‭ ‬تحالفها‭ ‬إلى‭ ‬إضعاف‭ ‬مواقفها‭ ‬في‭ ‬ميزان‭ ‬القوى‭.‬

خلال‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬تعاونت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬والاتحاد‭ ‬السوفيتي‭ ‬والمملكة‭ ‬المتحدة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬التوقيع‭ ‬على‭ ‬معاهدة‭ ‬عدم‭ ‬انتشار‭ ‬الأسلحة‭ ‬النووية‭ (‬1968‭) ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬والاتحاد‭ ‬السوفيتي‭ ‬ظلت‭ ‬متضاربة‭ ‬بطبيعتها‭. ‬

وعشية‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى،‭ ‬ارتبطت‭ ‬القوى‭ ‬الأوروبية‭ ‬الكبرى‭ ‬ببعضها‭ ‬البعض‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مصالح‭ ‬اقتصادية‭ ‬قوية‭ ‬بينما‭ ‬كانت‭ ‬تشارك‭ ‬في‭ ‬منافسة‭ ‬أمنية‭ ‬شرسة،‭ ‬والتي‭ ‬سادت‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬على‭ ‬التعاون‭ ‬الاقتصادي‭ ‬وأدت‭ ‬بها‭ ‬إلى‭ ‬الحرب‭.‬

الاتفاقات‭ ‬بين‭ ‬القوى‭ ‬العظمى‭ ‬تصاغ‭ ‬دائما‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬التنافس‭ ‬على‭ ‬أمنها‭. ‬غالبًا‭ ‬ما‭ ‬يتهمها‭ ‬منتقدو‭ ‬المدرسة‭ ‬الواقعية‭ ‬في‭ ‬الأمور‭ ‬الجيوسياسية‭ ‬بازدراء‭ ‬المؤسسات‭ ‬الدولية،‭ ‬وهي‭ ‬حجر‭ ‬الأساس‭ ‬لنظام‭ ‬دولي‭ ‬تنظمه‭ ‬القواعد‭.‬

لكن‭ ‬الواقعيين‭ ‬يعترفون‭ ‬بسهولة‭ ‬بأن‭ ‬هذه‭ ‬تلعب‭ ‬دورًا‭ ‬حاسمًا‭ ‬في‭ ‬احتواء‭ ‬المنافسة‭ ‬الأمنية‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬مترابط‭ - ‬مثل‭ ‬منظمة‭ ‬حلف‭ ‬شمال‭ ‬الأطلسي‭ (‬الناتو‭) ‬وحلف‭ ‬وارسو‭ ‬خلال‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة،‭ ‬أو‭ ‬مثل‭ ‬منظمة‭ ‬التجارة‭ ‬العالمية‭ ‬والأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬اليوم‭.‬

ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬يجادل‭ ‬الواقعيون‭ ‬بأن‭ ‬قواعد‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسات‭ ‬الدولية‭ ‬أو‭ ‬المتعددة‭ ‬الأطراف‭ ‬تحددها‭ ‬القوى‭ ‬العظمى‭ ‬وفقًا‭ ‬لمصالحها‭ ‬الخاصة،‭ ‬ولا‭ ‬يمكنها‭ ‬تحت‭ ‬أي‭ ‬ظرف‭ ‬من‭ ‬الظروف‭ ‬إجبار‭ ‬دولة‭ ‬مؤثرة‭ ‬على‭ ‬اتخاذ‭ ‬إجراءات‭ ‬من‭ ‬شأنها‭ ‬تهديد‭ ‬أمنها‭. ‬خلاف‭ ‬ذلك،‭ ‬سوف‭ ‬ينتهك‭ ‬هذه‭ ‬القواعد‭ ‬أو‭ ‬يعيد‭ ‬كتابتها‭ ‬لصالحه‭.‬

يتعارض‭ ‬هذا‭ ‬المنطق‭ ‬مع‭ ‬الاعتقاد‭ ‬السائد‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬بأن‭ ‬الديمقراطيات‭ ‬الليبرالية‭ ‬تتصرف‭ ‬بشكل‭ ‬مختلف‭ ‬عن‭ ‬الدول‭ ‬الاستبدادية‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يقال‭ ‬لنا‭ ‬إنه‭ ‬يعرض‭ ‬للخطر‭ ‬النظام‭ ‬العالمي‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬القانون‭ ‬ويشكل،‭ ‬بشكل‭ ‬عام،‭ ‬العقبة‭ ‬الحقيقية‭ ‬الوحيدة‭ ‬أمام‭ ‬السلام‭.‬

لكن‭ ‬السياسة‭ ‬الدولية‭ ‬لا‭ ‬تعمل‭ ‬بهذه‭ ‬الطريقة‭. ‬لا‭ ‬تهم‭ ‬طبيعة‭ ‬النظام‭ ‬كثيرًا‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬يحكمه‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬النفس‭ ‬حيث‭ ‬تخشى‭ ‬كل‭ ‬دولة‭ ‬على‭ ‬بقائها،‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬تتظاهر‭ ‬بذلك‭.‬

تعتبر‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬دولة‭ ‬ليبرالية‭ ‬بامتياز،‭ ‬لكنها‭ ‬انتهكت‭ ‬القانون‭ ‬الدولي‭ ‬بشكل‭ ‬صارخ‭ ‬عندما‭ ‬هاجمت‭ ‬يوغوسلافيا‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1999‭ ‬والعراق‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2003،‭ ‬بعد‭ ‬إشعال‭ ‬حرب‭ ‬أهلية‭ ‬دموية‭ ‬في‭ ‬نيكاراغوا‭ ‬خلال‭ ‬الثمانينيات‭.‬

يجادل‭ ‬بعض‭ ‬الخبراء‭ ‬بأن‭ ‬‮«‬الثورة‭ ‬النووية‮»‬‭ ‬كانت‭ ‬ستسلب‭ ‬الواقعية‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬جوهرها‭. ‬يحمي‭ ‬السلاح‭ ‬الذري‭ ‬حامله‭ ‬من‭ ‬التدمير‭ ‬بردع‭ ‬أي‭ ‬شخص‭ ‬عن‭ ‬مهاجمته،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يزيل‭ ‬أحد‭ ‬أسباب‭ ‬التنافس‭ ‬على‭ ‬السلطة‭.‬

إنهم‭ ‬يجادلون‭ ‬ويعتبرون‭ ‬أيضا‭ ‬أن‭ ‬الخوف‭ ‬من‭ ‬تصعيد‭ ‬كارثي‭ ‬سيكون‭ ‬كافياً‭ ‬لمنع‭ ‬قوتين‭ ‬نوويتين‭ ‬من‭ ‬الانخراط‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬تقليدية‭. ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬ما‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الدول‭ ‬المعنية‭ ‬تشارك‭ ‬هذا‭ ‬المنطق‭. ‬كلفت‭ ‬المنافسة‭ ‬بين‭ ‬القوتين‭ ‬العظميين‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفيتي‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬مليارات‭ ‬ومليارات‭ ‬الدولارات‭ ‬خلال‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة،‭ ‬وينطبق‭ ‬الشيء‭ ‬نفسه‭ ‬اليوم‭ ‬مع‭ ‬الصين‭ ‬وروسيا‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة‭.‬

هذه‭ ‬الدول‭ ‬لم‭ ‬تتوقف‭ ‬أبدًا‭ ‬عن‭ ‬الاستعداد‭ ‬للحرب‭ ‬التقليدية‭. ‬من‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬الصراع‭ ‬العسكري‭ ‬بين‭ ‬القوى‭ ‬العظمى‭ ‬يبدو‭ ‬أقل‭ ‬احتمالا‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬مليء‭ ‬بالأسلحة‭ ‬النووية،‭ ‬لكنه‭ ‬يظل‭ ‬تهديدًا‭ ‬ملموسًا‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭. ‬لذلك‭ ‬لم‭ ‬تفقد‭ ‬الواقعية‭ ‬أيًا‭ ‬من‭ ‬أهميتها‭.‬

تشير‭ ‬العقيدة‭ ‬الواقعية‭ ‬أيضًا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬المجالات‭ ‬ذات‭ ‬الأهمية‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬الحيوية‭ ‬للقوى‭ ‬العظمى‭ - ‬خارج‭ ‬منطقتها‭ - ‬هي‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬تسمح‭ ‬لها‭ ‬باحتواء‭ ‬منافسيها‭ ‬الاستراتيجيين‭ ‬أو‭ ‬التي‭ ‬لديها‭ ‬موارد‭ ‬أساسية‭ ‬لاقتصاد‭ ‬العالم‭. ‬

خلال‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة،‭ ‬حدد‭ ‬الواقعيون‭ ‬الأمريكيون‭ ‬ثلاث‭ ‬مناطق‭ ‬خارج‭ ‬القارة‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬بلادهم‭ ‬على‭ ‬استعداد‭ ‬للقتال‭ ‬فيها‭: ‬أوروبا‭ ‬وشمال‭ ‬شرق‭ ‬آسيا،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفيتي،‭ ‬والخليج‭ ‬العربي‭ ‬الغني‭ ‬بحقوله‭ ‬النفطية‭. ‬

عارض‭ ‬الجميع‭ ‬تقريبًا‭ ‬حرب‭ ‬فيتنام‭ ‬لأنها‭ ‬كانت‭ ‬تدور‭ ‬في‭ ‬جنوب‭ ‬شرق‭ ‬آسيا،‭ ‬وهي‭ ‬منطقة‭ ‬كانت‭ ‬تعتبر‭ ‬آنذاك‭ ‬ذات‭ ‬أهمية‭ ‬استراتيجية‭ ‬قليلة‭. ‬والآن‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أصبحت‭ ‬الصين‭ ‬بدورها‭ ‬قوة‭ ‬عظمى،‭ ‬فإن‭ ‬جنوب‭ ‬شرق‭ ‬آسيا‭ ‬يهم‭ ‬واشنطن‭ ‬أكثر‭ ‬بكثير،‭ ‬وهي‭ ‬الآن‭ ‬مستعدة‭ ‬للدفاع‭ ‬عسكريًا‭ ‬عن‭ ‬الوضع‭ ‬الراهن‭ ‬في‭ ‬تايوان‭ ‬وبحر‭ ‬الصين‭ ‬الجنوبي‭. ‬

من‭ ‬جانبها،‭ ‬لا‭ ‬تعطي‭ ‬الجغرافيا‭ ‬السياسية‭ ‬الليبرالية‭ ‬أي‭ ‬أولوية‭ ‬لأي‭ ‬منطقة‭ ‬معينة‭ ‬في‭ ‬العالم‭. ‬هدفها‭ ‬المعلن‭ ‬هو‭ ‬نشر‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والرأسمالية‭ ‬على‭ ‬أوسع‭ ‬نطاق‭ ‬ممكن‭. ‬فعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنهم‭ ‬يدّعون‭ ‬أنهم‭ ‬يمقتون‭ ‬أهوال‭ ‬الحرب،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬دعاة‭ ‬السياسة‭ ‬الخارجية‭ ‬الليبرالية‭ ‬لا‭ ‬يترددون‭ ‬في‭ ‬استخدامها‭ ‬لتحقيق‭ ‬أهدافهم‭ ‬الطموحة‭. ‬فعقيدة‭ ‬جورج‭ ‬بوش‭ ‬التي‭ ‬زعمت‭ ‬إضفاء‭ ‬الطابع‭ ‬الديمقراطي‭ ‬على‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬تحت‭ ‬تهديد‭ ‬السلاح،‭ ‬توضح‭ ‬هذا‭ ‬النهج‭ ‬تمامًا‭. ‬

ليس‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬المصادفة‭ ‬أن‭ ‬أنصار‭ ‬الواقعية‭ ‬انتقدوا‭ ‬بشدة‭ ‬الحرب‭ ‬في‭ ‬العراق‭. ‬لقد‭ ‬تم‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬والتخطيط‭ ‬لها‭ ‬ولإشعال‭ ‬فتيلها‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬المحافظين‭ ‬الجدد،‭ ‬المرتبطين‭ ‬بشدة‭ ‬بتعميم‭ ‬‮«‬قيم‮»‬‭ ‬الغرب،‭ ‬وبدعم‭ ‬من‭ ‬أنصار‭ ‬الهيمنة‭ ‬الليبرالية‭.‬

من‭ ‬المفارقات‭ ‬أن‭ ‬النهج‭ ‬الليبرالي‭ ‬للسياسة‭ ‬الخارجية‭ ‬له‭ ‬جوهر‭ ‬غير‭ ‬ليبرالي‭ ‬في‭ ‬الأساس‭. ‬وهكذا،‭ ‬تدافع‭ ‬الليبرالية‭ ‬عن‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬التسامح‭ ‬مع‭ ‬تنوع‭ ‬الآراء‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬لأنها‭ ‬تعترف‭ ‬بأن‭ ‬الأفراد‭ ‬الذين‭ ‬يؤلفونها‭ ‬لن‭ ‬يتفقوا‭ ‬أبدًا‭ ‬على‭ ‬أفضل‭ ‬طريقة‭ ‬للعيش‭ ‬معًا‭ ‬أو‭ ‬للحكم‭.‬

هذا‭ ‬هو‭ ‬السبب‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬المجتمعات‭ ‬الليبرالية‭ ‬تحاول‭ ‬توفير‭ ‬مساحات‭ ‬حيث‭ ‬يمكن‭ ‬للأفراد‭ ‬والجماعات‭ ‬التعايش‭ ‬مع‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬معتقداتهم‭ ‬أو‭ ‬مبادئهم‭. ‬ولكن‭ ‬عندما‭ ‬يتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بالسياسة‭ ‬الخارجية،‭ ‬يتصرف‭ ‬الليبراليون‭ ‬وكأنهم‭ ‬يعرفون‭ ‬نوع‭ ‬النظام‭ ‬الذي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬كما‭ ‬أنهم‭ ‬لا‭ ‬يترددون‭ ‬في‭ ‬إشعال‭ ‬الحروب‭. ‬

يتصرف‭ ‬الليبراليون‭ ‬وكأنهم‭ ‬يعرفون‭ ‬نوع‭ ‬النظام‭ ‬الذي‭ ‬ينطبق‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬بلد‭ ‬من‭ ‬بلدان‭ ‬العالم‭.  ‬

يعتبر‭ ‬الليبيراليون‭ ‬أنه‭ ‬يتعين‭ ‬على‭ ‬بقية‭ ‬العالم‭ ‬تقليد‭ ‬الغرب‭ ‬واستخدام‭ ‬كل‭ ‬الوسائل‭ ‬المتاحة‭ ‬لهم‭ ‬لدفعه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه‭. ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم‭ ‬محكوم‭ ‬عليه‭ ‬بالفشل،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬لأنه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬إجماع‭ ‬على‭ ‬تعريف‭ ‬النظام‭ ‬السياسي‭ ‬المثالي،‭ ‬ولكن‭ ‬أيضًا‭ ‬لأنه‭ ‬يفلت‭ ‬من‭ ‬المنطق‭ ‬الواقعي‭. ‬

الدول‭ ‬كيانات‭ ‬ذات‭ ‬سيادة‭ ‬تدافع‭ ‬عن‭ ‬نفسها‭ ‬ضد‭ ‬تهديد‭ ‬يستهدف‭ ‬مصالحها‭ ‬الحيوية،‭ ‬خاصة‭ ‬عندما‭ ‬يأتي‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬دولة‭ ‬منافسة‭ ‬تنوي‭ ‬تغيير‭ ‬نظام‭ ‬الحكم‭ ‬في‭ ‬منافستها‭.‬

عندما‭ ‬انهار‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفيتي‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1991،‭ ‬أفسح‭ ‬العالم‭ ‬ثنائي‭ ‬القطب‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬وراء‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭ ‬الطريق‭ ‬أمام‭ ‬عالم‭ ‬أحادي‭ ‬القطب‭ ‬يتمحور‭ ‬حول‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭. ‬أصبحت‭ ‬الأحادية‭ ‬القطبية‭ ‬متعددة‭ ‬الأقطاب‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2017،‭ ‬وذلك‭ ‬بفضل‭ ‬صعود‭ ‬الصين‭ ‬وانبعاث‭ ‬القوة‭ ‬الروسية‭.‬

من‭ ‬المؤكد‭ ‬أن‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬تحتفظ‭ ‬بمرتبتها‭ ‬باعتبارها‭ ‬القوة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬التشكيل‭ ‬الجديد‭ ‬للعالم،‭ ‬لكن‭ ‬الصين،‭ ‬باقتصادها‭ ‬المثير‭ ‬للإعجاب‭ ‬وقوتها‭ ‬العسكرية‭ ‬الصاعدة،‭ ‬تتأرجح‭ ‬في‭ ‬أعقابها‭. ‬ومن‭ ‬بين‭ ‬العمالقة‭ ‬الثلاثة،‭ ‬من‭ ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬روسيا‭ ‬هي‭ ‬الأضعف‭.‬

ومن‭ ‬ثم‭ ‬فقد‭ ‬أوجد‭ ‬النظام‭ ‬متعدد‭ ‬الأقطاب‭ ‬تنافسين‭ ‬جديدين‭ ‬يتبع‭ ‬كل‭ ‬منهما‭ ‬منطقًا‭ ‬واقعيًا‭ ‬مختلفًا‭. ‬وعلى‭ ‬غرار‭ ‬العداء‭ ‬الأمريكي‭ ‬السوفييتي‭ ‬السابق،‭ ‬وعلى‭ ‬عكس‭ ‬الصراع‭ ‬الحالي‭ ‬بين‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وروسيا،‭ ‬فإن‭ ‬المنافسة‭ ‬بين‭ ‬واشنطن‭ ‬وبكين‭ ‬تهدف‭ ‬في‭ ‬المقام‭ ‬الأول‭ ‬إلى‭ ‬الهيمنة‭ ‬الإقليمية،‭ ‬حتى‭ ‬لو‭ ‬كان‭ ‬هذا،‭ ‬مثل‭ ‬المنافسة‭ ‬مع‭ ‬الروس‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تمتد‭ ‬إلى‭ ‬بقية‭ ‬العالم‭. ‬

إن‭ ‬التنافس‭ ‬الحالي‭ ‬بين‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وروسيا‭ ‬لا‭ ‬يفسره‭ ‬أي‭ ‬خوف‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تهيمن‭ ‬موسكو‭ ‬على‭ ‬أوروبا،‭ ‬بل‭ ‬بالأحرى‭ ‬بسلوك‭ ‬واشنطن‭ ‬المهيمن‭. ‬خلال‭ ‬القرنين‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬والعشرين،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬يُنظر‭ ‬إلى‭ ‬الصين‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬قوة‭ ‬عظمى‭.‬

بالتأكيد‭ ‬كان‭ ‬لدى‭ ‬الصين‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬السكان،‭ ‬لكن‭ ‬مواردها‭ ‬لم‭ ‬تسمح‭ ‬لها‭ ‬ببناء‭ ‬قوة‭ ‬عسكرية‭ ‬كافية‭. ‬بدأ‭ ‬الوضع‭ ‬يتغير‭ ‬في‭ ‬أوائل‭ ‬التسعينيات،‭ ‬عندما‭ ‬بدأ‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الصيني‭ ‬نموه‭ ‬المذهل‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬الثاني‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬وقادرًا‭ ‬على‭ ‬تطوير‭ ‬التقنيات‭ ‬المتقدمة‭. ‬

وكما‭ ‬هو‭ ‬متوقع،‭ ‬تستخدم‭ ‬بكين‭ ‬قوتها‭ ‬الاقتصادية‭ ‬لزيادة‭ ‬سطوتها‭ ‬العسكرية‭. ‬تهدف‭ ‬الصين‭ ‬إلى‭ ‬ترسيخ‭ ‬سيطرتها‭ ‬على‭ ‬آسيا،‭ ‬ولكن‭ ‬أيضًا‭ ‬لإخراج‭ ‬القوات‭ ‬الأمريكية‭ ‬تدريجياً‭ ‬من‭ ‬الجزء‭ ‬الشرقي‭ ‬من‭ ‬القارة،‭ ‬وذلك‭ ‬لفرض‭ ‬هيمنتها‭ ‬على‭ ‬المنطقة‭ ‬بأكملها‭. ‬كما‭ ‬أنها‭ ‬بصدد‭ ‬بناء‭ ‬قوة‭ ‬بحرية‭ ‬في‭ ‬أعالي‭ ‬البحار،‭ ‬مما‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬أنها‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬توسيع‭ ‬قوتها‭ ‬حول‭ ‬العالم‭.‬

باختصار،‭ ‬تحاول‭ ‬بكين‭ ‬أن‭ ‬تحذو‭ ‬حذو‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬والتي‭ ‬هي‭ ‬بالفعل‭ ‬أفضل‭ ‬طريقة‭ ‬لتحسين‭ ‬أمنها‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬الفوضى‭. ‬لدى‭ ‬القادة‭ ‬الصينيين‭ ‬سبب‭ ‬آخر‭ ‬لرغبتهم‭ ‬في‭ ‬الهيمنة‭ ‬على‭ ‬آسيا‭: ‬أهدافهم‭ ‬الإقليمية‭ ‬المستوحاة‭ ‬من‭ ‬القومية،‭ ‬مثل‭ ‬إعادة‭ ‬احتلال‭ ‬تايوان‭ ‬أو‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬بحر‭ ‬الصين‭ ‬الجنوبي،‭ ‬تحتم‭ ‬عليهم‭ ‬الهيمنة‭ ‬على‭ ‬منطقتهم‭. ‬

عملت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬منذ‭ ‬فترة‭ ‬طويلة‭ ‬على‭ ‬منع‭ ‬أي‭ ‬دولة‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬تحقيق‭ ‬ذلك،‭ ‬كما‭ ‬أثبتت‭ ‬مرارًا‭ ‬وتكرارًا‭ ‬طوال‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭. ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الطموحات‭ ‬الصينية،‭ ‬يحاول‭ ‬الأمريكيون‭ ‬الآن‭ ‬وضع‭ ‬سياسة‭ ‬احتواء‭ ‬قابلة‭ ‬للتطبيق‭ ‬على‭ ‬المستويين‭ ‬العسكري‭ ‬والاقتصادي‭. ‬

على‭ ‬الصعيد‭ ‬العسكري،‭ ‬تسعى‭ ‬واشنطن‭ ‬إلى‭ ‬إحياء‭ ‬التحالفات‭ ‬المصممة‭ ‬لاحتواء‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفيتي‭ ‬بهدف‭ ‬دمجها‭ ‬في‭ ‬تحالف‭ ‬موجه‭ ‬ضد‭ ‬الصين‭. ‬

إنها‭ ‬مسألة‭ ‬تتعلق‭ ‬بإقامة‭ - ‬أو‭ ‬تجديد‭ - ‬شراكات‭ ‬متعددة‭ ‬الأطراف،‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬معاهدة‭ ‬التعاون‭ ‬العسكري‭ ‬الموقعة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وأستراليا‭ ‬والمملكة‭ ‬المتحدة‭ (‬Aukus‭) ‬أو‭ ‬الحوار‭ ‬الأمني‭ ‬الرباعي‭ (‬QUAD‭) ‬الذي‭ ‬يربط‭ ‬بين‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وأستراليا،‭ ‬اليابان‭ ‬والهند،‭ ‬ولكن‭ ‬أيضًا‭ ‬لتوثيق‭ ‬التحالفات‭ ‬الثنائية‭ ‬القديمة‭ ‬التي‭ ‬أبرمت‭ ‬بين‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬ودول‭ ‬مثل‭ ‬اليابان‭ ‬أو‭ ‬الفلبين‭ ‬أو‭ ‬كوريا‭ ‬الجنوبية‭.‬

على‭ ‬الصعيد‭ ‬الاقتصادي،‭ ‬تعتزم‭ ‬واشنطن‭ ‬إبطاء‭ ‬تقدم‭ ‬الصين‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬التقنيات‭ ‬المتقدمة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬ضمان‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬الروافع‭ ‬الرئيسية‭ ‬لهذا‭ ‬القطاع‭ ‬الاستراتيجي‭.‬

ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬يمكن‭ ‬لهذا‭ ‬الصدام‭ ‬أن‭ ‬يضع‭ ‬العلاقات‭ ‬عبر‭ ‬الأطلسي‭ ‬على‭ ‬المحك‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬الأوروبية،‭ ‬التي‭ ‬تضررت‭ ‬بالفعل‭ ‬من‭ ‬قطع‭ ‬التجارة‭ ‬مع‭ ‬روسيا،‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬عملاء‭ ‬في‭ ‬السوق‭ ‬الصينية‭.‬

كل‭ ‬شيء‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬المنافسة‭ ‬الشرسة‭ ‬بين‭ ‬الصين‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬ستشتد‭ ‬في‭ ‬المستقبل‭ ‬القريب‭. ‬مما‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬فيه‭ ‬أنه‭ ‬سوف‭ ‬يغذيها‭ ‬جزئياً‭ ‬‮«‬المعضلة‭ ‬الأمنية‮»‬‭ ‬الشهيرة،‭ ‬والتي‭ ‬بموجبها‭ ‬يتم‭ ‬تفسير‭ ‬الإجراء‭ ‬الذي‭ ‬يقرره‭ ‬أحدهم‭ ‬لأغراض‭ ‬الدفاع‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الآخر‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬نية‭ ‬عدوانية‭. ‬ستكون‭ ‬هذه‭ ‬المنافسة‭ ‬خطيرة‭ ‬لسببين‭.‬

من‭ ‬ناحية‭ ‬أولى،‭ ‬يتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بتايوان،‭ ‬وهي‭ ‬جزيرة‭ ‬يعتبرها‭ ‬كل‭ ‬الصينيين‭ ‬تقريبًا‭ ‬أرضًا‭ ‬مقدسة‭ ‬تابعة‭ ‬للصين‭ ‬الأم،‭ ‬ولكن‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬مصممة‭ ‬على‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬استقلالها‭ ‬تحت‭ ‬المظلة‭ ‬الأمريكية‭.‬

ومن‭ ‬ناحية‭ ‬ثانية،‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬نشوب‭ ‬حرب‭ ‬بين‭ ‬القوتين‭ ‬العظميين‭ ‬في‭ ‬المحيط‭ ‬الهادئ،‭ ‬فمن‭ ‬المرجح‭ ‬أن‭ ‬يدور‭ ‬القتال‭ ‬في‭ ‬الجزر‭ ‬الواقعة‭ ‬قبالة‭ ‬الساحل‭ ‬الصيني،‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬الجو‭ ‬وفي‭ ‬البحر‭ ‬ونيران‭ ‬الصواريخ‭. ‬ليس‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬تخيل‭ ‬التجاوزات‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يؤدي‭ ‬إليها‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬السيناريو‭.‬

إذا‭ ‬كانت‭ ‬الحرب‭ ‬ستندلع‭ ‬في‭ ‬القارة‭ ‬الآسيوية،‭ ‬فإن‭ ‬عدد‭ ‬ضحاياها‭ ‬سيكون‭ ‬بالتأكيد‭ ‬أعلى‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬بكثير،‭ ‬ولهذا‭ ‬السبب‭ ‬يفكر‭ ‬دعاة‭ ‬الحرب‭ ‬مرتين‭ ‬قبل‭ ‬الانخراط‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬التصعيد،‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬حلف‭ ‬الناتو‭ ‬وحلف‭ ‬وارسو‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬أوروبا‭ ‬خلال‭ ‬فترة‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭.‬

وبالتالي،‭ ‬فإن‭ ‬فرضية‭ ‬المواجهة‭ ‬البرية‭ ‬تبدو‭ ‬غير‭ ‬مرجحة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يمنع‭ ‬حشد‭ ‬كنوز‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬من‭ ‬كلا‭ ‬الجانبين‭ ‬لمنع‭ ‬حدوثها‭. ‬ساهمت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬بدء‭ ‬هذا‭ ‬التنافس‭ ‬المحفوف‭ ‬بالمخاطر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تجاهل‭ ‬مبادئ‭ ‬الواقعية‭ ‬السياسية‭ ‬التي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تحكم‭ ‬العلاقات‭ ‬الدولية‭.‬

في‭ ‬أوائل‭ ‬التسعينيات،‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بوسع‭ ‬أي‭ ‬دولة‭ ‬أن‭ ‬تنافس‭ ‬القوة‭ ‬الأمريكية‭ ‬الأمريكية‭. ‬كانت‭ ‬الصين‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬متخلفة‭ ‬اقتصاديا‭. ‬وباتباع‭ ‬الوصفات‭ ‬الليبرالية،‭ ‬فتح‭ ‬البيت‭ ‬الأبيض‭ ‬ذراعيه‭ ‬لبكين‭ ‬مما‭ ‬ساعدها‭ ‬على‭ ‬تحفيز‭ ‬نموها‭ ‬الاقتصادي‭ ‬والسعي‭ ‬إلى‭ ‬دمجها‭ ‬في‭ ‬الساحة‭ ‬الدولية‭.‬

افترض‭ ‬القادة‭ ‬الأمريكيون‭ ‬أن‭ ‬الصين‭ ‬الغنية‭ ‬ستصبح‭ ‬‮«‬مساهمًا‭ ‬مسؤولًا‮»‬‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النظام‭ ‬العالمي‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬تهيمن‭ ‬عليه‭ ‬واشنطن‭ ‬نفسها،‭ ‬وأنه‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬قوة‭ ‬الظروف‭ ‬سوف‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬ديمقراطية‭ ‬ليبرالية‭.‬

إن‭ ‬الصين‭ ‬المزدهرة‭ ‬والديمقراطية‭ ‬لن‭ ‬تشكل‭ ‬أي‭ ‬خطر‭ ‬على‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية،‭ ‬هكذا‭ ‬كانت‭ ‬الحسابات‭ ‬في‭ ‬دوائر‭ ‬القرار‭ ‬في‭ ‬واشنطن‭. ‬حسابات‭ ‬خاطئة‭ ‬بشكل‭ ‬فادح،‭ ‬كما‭ ‬رأينا‭ ‬لاحقًا‭. ‬لو‭ ‬تبنى‭ ‬قادة‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬منطقًا‭ ‬واقعيًا،‭ ‬لكانوا‭ ‬قد‭ ‬تجنبوا‭ ‬المساهمة‭ ‬في‭ ‬النمو‭ ‬الصيني‭ ‬وسعوا‭ ‬إلى‭ ‬توسيع‭ ‬أو‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬فجوة‭ ‬القوة‭ ‬بين‭ ‬البلدين‭ ‬بدلاً‭ ‬من‭ ‬تضييقها‭.‬

عندما‭ ‬يتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬بأوكرانيا،‭ ‬فإن‭ ‬النظرة‭ ‬الغربية‭ ‬السائدة‭ ‬للحرب‭ ‬ترقى‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬الإيحاء‭ ‬بأن‭ ‬روسيا‭ ‬تتصرف‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬مثلما‭ ‬تتصرف‭ ‬الصين‭ ‬في‭ ‬آسيا‭. ‬يقال‭ ‬إن‭ ‬الرئيس‭ ‬فلاديمير‭ ‬بوتين‭ ‬مدفوع‭ ‬بالطموحات‭ ‬الإمبريالية‭ ‬التي‭ ‬من‭ ‬شأنها‭ ‬أن‭ ‬تدفعه‭ ‬لاستعادة‭ ‬روسيا‭ ‬الكبرى‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفيتي‭ ‬البائد‭ ‬واستعادة‭ ‬حلف‭ ‬وارسو‭ ‬الجليدي‭ ‬القديم،‭ ‬والذي‭ ‬من‭ ‬شأنه‭ ‬أن‭ ‬يعرض‭ ‬أمن‭ ‬أوروبا‭ ‬بأكملها‭ ‬للخطر‭.‬

وفقًا‭ ‬لهذا‭ ‬التحليل،‭ ‬لن‭ ‬تكون‭ ‬أوكرانيا‭ ‬سوى‭ ‬‮«‬مقبلات‭ ‬في‭ ‬طبق‭ ‬الغول‭ ‬الروسي‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬سيهاجم‭ ‬دولًا‭ ‬أخرى‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭. ‬وبالتالي،‭ ‬فإن‭ ‬دور‭ ‬حلف‭ ‬الناتو‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭ ‬سيقتصر‭ ‬على‭ ‬احتواء‭ ‬نظام‭ ‬السيد‭ ‬بوتين،‭ ‬بنفس‭ ‬الطريقة‭ ‬التي‭ ‬اتبعها‭ ‬وهي‭ ‬منع‭ ‬سيطرة‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفيتي‭ ‬على‭ ‬أوروبا‭ ‬بأكملها‭ ‬خلال‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة‭.‬

تتكرر‭ ‬هذه‭ ‬النسخة‭ ‬بكثرة‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الحديث‭ ‬الذي‭ ‬يدور‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬بمثابة‭ ‬الأسطورة‭. ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬الرئيس‭ ‬الروسي‭ ‬يرغب‭ ‬في‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬أوكرانيا‭ ‬أو‭ ‬أنه‭ ‬ينوي‭ ‬غزو‭ ‬دول‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭ ‬الشرقية‭. ‬علاوة‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬هل‭ ‬يرغب‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬رغم‭ ‬علمه‭ ‬بعدم‭ ‬امتلاك‭ ‬الوسائل‭ ‬العسكرية‭ ‬لتحقيق‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الهدف؟

 

{‭ ‬أستاذ‭ ‬العلوم‭ ‬السياسية‭ ‬بجامعة‭ ‬

شيكاغو،‭ ‬له‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬المؤلفات

 

لوموند‭ ‬دبلوماتيك

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا