في نوفمبر 2024 وجه مارك روته الأمين العام الجديد لحلف شمال الأطلسي الناتو التهنئة للرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، متطلعاً إلى العمل معه مرة أخرى من أجل تعزيز السلام من خلال القوة عبر الحلف، إلا أنه لوحظ أن تلك التهنئة قد تضمنت أيضاً إشارة الأمين العام للحلف لقائمة التحديات العالمية التي تواجه دول الحلف ومنها روسيا، الإرهاب، المنافسة مع الصين، الشراكات بين الدول المنافسة للغرب.
وعلى الرغم من أهمية الدور الذي يضطلع به الحلف كمظلة أمنية للدول الغربية منذ تأسيسه عام 1949 وحتى الآن، فضلاً عن تدخل الحلف في عديد من الأزمات التي رأت دوله الأعضاء أنها تمثل تهديداً لأمنها القومي فإن العلاقة بين الولايات المتحدة والحلف قد شهدت حالات من المد والجزر، وخاصة خلال الولاية الأولى للرئيس ترامب، فتارة طالب أعضاء الحلف بضرورة الالتزام بتخصيص نسبة 2% من الناتج المحلي الإجمالي لأغراض الدفاع في الحلف، وتارة أخرى طالب الحلف بضرورة الاضطلاع بدور أكبر في الشرق الأوسط وهو ما آثار جدلاً حول طبيعة وتوقيت تلك الدعوة والدور المطلوب من الحلف، بل إن الرئيس دونالد ترامب قد صرح في الثامن من ديسمبر 2024 أنه سوف يضطر للانسحاب من الناتو إذا لم يسدد الحلفاء فواتيرهم، إلا أن ذلك يعيد إلى الأذهان التصريحات ذاتها التي أطلقها ترامب خلال الحملة الانتخابية لولايته الأولى ثم عاد وأكد الشراكات الاستراتيجية للولايات المتحدة خلال إلقائه خطاب حالة الاتحاد في أعقاب توليه مقاليد الحكم.
وقبيل الخوض في طبيعة تلك العلاقات بشكل أكثر تفصيلاً لابد من تأكيد ثلاثة أمور أولها: أن الولايات المتحدة تتحمل النسبة الأكبر من النفقات الدفاعية لحلف الناتو وهوما يعني عملياً تأثيرها في سياسات الحلف، صحيح أن الإجماع هو القاعدة التي تحكم عمل الحلف وحال اعتراض دولة واحدة فإن ذلك يعني عدم تمرير القرارات ولكن للولايات المتحدة تأثير على عمل الحلف، وثانيها: على الرغم من الشروط التي حددها الحلف للتدخل في الأزمات خارج أراضيه وهي إجماع الدول الأعضاء، وجود قرار أممي حتى لا تثار إشكالية الفجوة بين الشرعية والمشروعية، وأخيراً طلب الدولة أو الأطراف المعنية من الحلف التدخل، فإن الواقع العملي أكد أن الدول الرئيسية في الحلف قد شاركت مع الولايات المتحدة في عديد من التدخلات العسكرية ومنها التحالف العسكري البحري الغربي خلال الحرب العراقية- الإيرانية، وحرب تحرير دولة الكويت، ثم مشاركة الحلف في التحالف العسكري لمحاربة داعش عام 2017 من خلال الدعم اللوجستي، وثالثها: تدخل الحلف كمنظمة للمرة الأولى في الأزمة الليبية عام 2011 والتي ارتكز فيها على قرارات أممية ودعم إقليمي ولكن في الوقت ذاته مهدت الجهود العسكرية الأمريكية الطريق لذلك التدخل من خلال طائرات أواكس لعدة أيام قبل تدخل الحلف.
وفي تقديري أن علاقة الولايات المتحدة بحلف الناتو لا ترتبط بمسألة أهمية التزام أعضاء الحلف بمساهمتهم المالية وهي قضية خلافية ممتدة ولكن في السياق الدولي العام، فالولايات المتحدة لا تزال تحتاج إلى الحلف وخاصة في ظل استمرار الحرب الأوكرانية، صحيح أن دونالد ترامب تعهد بإنهاء تلك الحرب ولكن التساؤلات حول طبيعة التنازلات المطلوبة من كل طرف، كما أن الحلف بحاجة إلى الولايات المتحدة أو بالأحرى الدول الأوروبية في الحلف في ظل حقيقتين الأولى: حالة الانكشاف الأمني الأوروبي التي أكدتها الحرب الأوكرانية، حيث تحملت الولايات المتحدة العبء الأكبر في تلك الحرب فقدمت أكثر من 60 مليار دولار لأوكرانيا منذ 2022 وحتى 2024 والثانية: عدم وجود بديل أمني أوروبي حتى الآن لحلف الناتو فلا تزال الدول الأوروبية في الناتو وخاصة الصغرى ترى في الناتو مظلتها الأمنية.
ولعل ما يثير الجدل هو كيفية انعكاس طبيعة العلاقة بين الولايات المتحدة وحلف الناتو خلال حقبة الرئيس ترامب القادمة على منطقة الشرق الأوسط، فالتصريحات الأولية للرئيس ترامب تعكس توجهاً مفاده عدم الانخراط كثيراً في شؤون تلك المنطقة التي تشهد عدة أزمات مزمنة ،إلا أن ذلك يعني عملياً ضرورة انخراط الحلف في القضايا الشرق أوسطية لثلاثة أسباب أولها: الفراغات التي تنتج عن انحسار الولايات المتحدة ودول الحلف عموماً تتيح الفرص للمنافسين لتأسيس شراكات في تلك المناطق وهو ما يمثل تحدياً للمصالح الغربية عموماً وليس أدل على ذلك أنه في الوقت الذي أعلن حلف الناتو انتهاء مهام بعثته لمكافحة القرصنة قبالة سواحل الصومال والقرن الإفريقي والتي امتد عملها ما بين عام 2008 و2016 نجد أن كل من الصين والهند قد أرسلت قطعا بحرية نحو باب المندب والبحر الأحمر لحماية سفنها التجارية بعيداً عن الانضمام إلى تحالف حارس الازدهار الذي أسسته الولايات المتحدة لهذا الغرض في ديسمبر 2023، أما السبب الثاني: فهو أن لحلف الناتو شراكتين إقليميتين مهمتين وهما الحوار المتوسطي عام 1994 ومبادرة إسطنبول عام 2004 ، وعلى الرغم من الطموحات والأهداف التي أعلنت بشأن هاتين المبادرتين فإن مردودهما ربما لم يكن على مستوى طموح الدول الشريكة وهو ما يثير تساؤلات حول الدور المتوقع للحلف تجاه تهديدات الأمن الإقليمي وخاصة بعد التطورات في سوريا والتي أكملت حالة الانهيارات الإقليمية ، أما السبب الثالث فهو أن ثمة تهديدات حقيقية تواجه مصالح دول الناتو وتحتاج إلى سياسات ردع من جانب الحلف ومنها البرامج النووية الإيرانية وأيضاً زيادة وتيرة استخدام الطائرات من دون طيار الدرونز لتهديد المنشآت الحيوية لدول المنطقة، بالإضافة إلى التهديدات السيبرانية.
ومع عدم وضوح ملامح سياسات ترامب الشرق أوسطية عموماً حتى الآن فإنه من الصعب الحديث عن طبيعة الأدوار الأمريكية والأطلسية تجاه المنطقة، إلا أنه مع زيادة حدة التهديدات التي تواجه الحلف سواء في أوروبا أو في منطقة الشرق الأوسط ومع إصدار الحلف لمفهوم استراتيجي جديد خاص بدول الجنوب في مايو 2024 فإن ذلك سيكون الاختبار الحقيقي للحلف بشأن رغبته وقدرته على العمل مع الولايات المتحدة ومع الشركاء من الشرق الأوسط والعالم العربي والخليج في ظل التحولات الإقليمية المتسارعة والتي تعكس ثلاثة مخاطر متزامنة أولها: توظيف الجماعات دون الدول للتكنولوجيا الحديثة على نحو سيء بما يهدد مصالح الحلفاء والشركاء، وثانيها: نمط الشراكات والتحالفات الجديدة في المنطقة والتي ليست بالضرورة أن تكون عسكرية ولكنها تعكس تحولات مهمة، وثالثها: مخاوف الشركاء والتساؤلات حول أهمية تطوير الشراكات.
ومجمل القول إن علاقة الولايات المتحدة بحلف الناتو هي شراكة استراتيجية تزداد رسوخاً وفقاً للتحولات العالمية والتهديدات الإقليمية.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك