في سورة الإنسان يطرح القرآن الكريم تساؤلًا عجيبًا يدهش له الإنسان، ومن خلال البحث عن إجابات شافية لهذا التساؤل يجد الإنسان نفسه مبهورًا لشدة إعجابه للأجوبة التي يطرحها القرآن في هذه السورة العظيمة، وما تضمنته من قيم ومبادئ حري بالإنسان أن يتأملها، وأن يعمل عقله فيها، ويبحث في بداياتها ونهاياتها، وسوف يجد الأجوبة الشافية من خلال ما تطرحه السورة من قيم عملية، ومواقف يعجز الإنسان عن سبر أغوارها، وإدراك مقاصدها التي أنارت الطريق، وأضاءت السبل في محاولة بلوغ الغاية التي تحدثت عنها السورة، يقول تعالى: (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورا)الإنسان / 1.
الآية الجليلة تتحدث عن الإنسان، عن بداياته ويجعل القرآن للإجابة عن هذا التساؤل العجيب ما تطرحه السورة من إجابات عملية يحاول الإنسان من خلالها أن يجسد معالم الطريق إلى هذا الإنسان، ومعرفته حق المعرفة ليس عن طريق الكلام المرسل، بل عن طريق ما يقوم به الإنسان من أعمال خيرة يجيب عن طريقها على هذا التساؤل، يقول تعالى: (إنَّا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعًا بصيرًا) الإنسان / 2.
وها هي تطرح البدايات الحقيقية لوجود هذا الإنسان، فيقول جل جلاله: (إنَّا هديناه السبيل إما شاكرًا وإما كفورا) الإنسان / 3.
البداية الحقيقية لهذا المخلوق الذي سمَّاه الله تعالى «الإنسان» وجعل اسمه عنوانًا للسورة، فخلد بذلك السورة، وما فيها من فضائل عملية ما أحوج البشرية إليها، وهناك خياران لا ثالث لهما: أن يكون الإنسان شاكرًا لنعم الله تعالى التي لا تعد ولا تحصى وإما أن يكون كافرًا به، يقول تعالى: (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم) النحل / 18. والإنسان إما شاكرًا، ومقرًا بفضله تعالى، وساعيًا إلى مرضاته، شاكرًا له سبحانه أن يسر له السبيل للتعرف عليه سبحانه إلهًا واحدًا لا شريك له تعالى، ووفق اختياره سوف يتحدد مصيره في الدنيا والآخرة، وهو مصير تحدده السورة تكشف سمات هذا الإنسان في كتاب حفظه الله تعالى: (إنَّا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) الحجر / 9. وأحاطه بحصن منيع، قال جل جلاله: (.. وإنه لكتاب عزيز (41) لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (42)) سورة فصلت.
لقد حكم الحق سبحانه وتعالى على استحالة مس هذا الكتاب العزيز بسوء، حتى لو تظاهر الإنس والجن على ذلك، قال تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) الإسراء / 88.
وتحداهم بأن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، ثم بالغ في التحدي، فتحداهم بسورة واحدة من مثله، فعجزوا عن ذلك كله وسلمت له القضية، وظل القرآن الكريم نصا مقدسا عجز البشر أن يأتوا بمثله أبدًا.
وتواصل سورة الإنسان تأطيرها لملامح الإنسان القرآني، يقول تعالى: (عينًا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا (6) يوفون بالنذر ويخافون يومًا كان شره مستطيرا (7)) سورة الإنسان.
من صفات هذا الإنسان القرآني أنه إنسان يوفي بالنذر، ويلتزم بعهوده ومواثيقه، وخاصة أنها عهود ومواثيق مع الله تعالى، ويستحيل عليه أن يخلفها أو يفرط فيها، ولأن هذا الإنسان وفيًا لما عاهد الله تعالى عليه، فإنه يلزم نفسه بما لم يلزمه الله تعالى بها، يقول تعالى: (ويطعمون الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرا (8) إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا (9) إنَّا نخاف من ربنا يومًا عبوسًا قمطريرا (10) فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقَّاهم نضرة وسرورا (11) وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا (12)) سورة الإنسان.
إن هذا الإنسان لا يكتفي بإطعام من هو في حاجة إلى الطعام، والقليل الزهيد يكفيه، بل هو يتخير من الطعام أفضله، ومن العطاء أجزله، وهو مثال على إنكار الذات، وهو يفعل ذلك لأنه يقدم الطعام والبذل والعطاء إلى إله كريم جواد سوف يختار في مكافأته له يوم القيامة أحسن الذي عمل، كما يتخير في العفو عن الذنوب أسوأ الذي عمل، وبالتالي فإنه غفَّار للذنوب التي أقل سوءًا، يقول سبحانه وتعالى: (ليكفِّر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون) الزمر / 3.
وإذا كان هذا صنيع الله تعالى معهم، فأحرى بالمؤمن الصادق في إيمانه أن يتصدق بأحسن الذي يملك لأنه يتقرب بالبذل والعطاء إلى الله تعالى.
ثم تواصل السورة الكريمة وصف هذا الإنسان، ووصف القيم التي يتمثلها الإنسان في سورة الإنسان في حياته، هكذا لما علم الله تعالى صدق نيتهم، واطلع على خفايا أنفسهم، فأعطاهم من الجزاء ما يتخيرون ويرجون، وغايتهم في ذلك ليس حب الظهور والمباهاة بما يقدمون من خير.
هذه لمحات مباركة تقدمها سورة الإنسان في وقار وإخبات لِتُبَيِنْ من خلالها معالم الإنسان القرآني.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك