إنَّ قضية الأجناس الأدبيّة من أقدم القضايا النقدية العالميّة التي اُثيرت منذ كتاب (فن الشعر) لأرسطو؛ وهو الكتاب الذي نظَّر فيه للتراجيديا والكوميديا من خلال استقراء قواعد التراجيديات الإغريقيّة الكبرى التي مُثِّلت قبل ظهور كتابه بثلاثة قرون أو أكثر. لقد كان كتاب (فن الشعر) بمثابة الكتاب التأسيسيّ الملهم على الرغم من فقدان معظم أجزائه وبقاء خمس عشر صفحة منه فقط، وتجسّد هذا الإلهام في عشرات الشروح الخاصة به بلغات متعدّدة تأتي في مقدمتها اللغة اللاتينيّة. أمَّا فيما يتعلق بتطوَّر الأجناس الأدبيّة العربيّة فقد اعتنت البلاغة الكلاسيكيّة العربيّة بجنسي الشعر والنثر على اختلاف المقاربات والمرجعيات. وفي العصر الحديث التفت بعض النقاد العرب إلى مسألة الأجناس الأدبيّة، وتمثَّل هذا الاهتمام كذلك في اعتناء الجامعات التونسيّة في أطاريحها الجامعية بقضايا الأنواع الأدبيّة وتحولاتها الكبرى.
إنَّ كتاب )تطوُّر الأنواع الأدبيّة العربيّة( لعبدالله خليفة من المقاربات النقدية التي ناقشت مسألة قصور الأنواع الأدبيّة العربيّة على نوع واحد هو النوع الشعري في حين أنَّ الملحمة والدراما هُمِشتا وفق أطروحته، وهذا التهميش راجع لشروط اجتماعيّة وتاريخيّة طويلة ومعقدة. وتمثل الأنواع الأدبيّة من وجهة نظره قضايا جوهرية في الأدب؛ فهي تعبر عن قدرات شعب أو أمة على التطوُّر الثقافي على مدى قرون، فليست هي بناءات شكلانية ترصف الكلام وتجمع المعاني في (قوالب) لكنها تعبير عن قدرات المبدعين والنقاد على الحَراك التحويلي لمجتمعاتهم. لقد تناول عبدالله خليفة نماذج شعرية وسردية عربية كبرى من المعلقات (معلقة امرئ القيس)، ونثر أبي حيّان التوحيدي، ومقامات بديع الزمان الهمذاني والحريري، وسيرة (الأمير حمزة البهلوان) الشعبيّة، وألف ليلة وليلة، وسرد المنفلوطي، وتوفيق الحكيم، وغنائية السيّاب. إنَّ أطروحة عبدالله خليفة تركز على وقوع العرب أسرى لجغرافية الصحراء العربيّة التي لم يغادروها لا في شعرهم ولا نثرهم رغم وجود بعض الإشارات الشعرية والنثرية الدالة على مثل هذا الحَراك التحويلي.
يثير كتاب «تطوُّر الأنواع الأدبية العربيّة» بعض الأسئلة الكبرى الأيديولوجية الخاصة بتطوُّر هذه الأنواع في الثقافة العربيّة، وهي أسئلة مهمة ولكنها ليست بالجديدة فقد سبق لبعض النقاد العرب إثارتها مثل أدونيس في كتابه) الثابت والمتحوُّل (وجمال الدين بن الشيخ في كتابه) الشعرية العربيّة( وغيرهما. كما أنَّ افتقار هذه المقاربة النقدية إلى مرجعيات نقدية تأسيسيّة أفقدها التماسك المنهجي، وأتى تناول النماذج الأدبيّة العربيّة الكبرى (الشعرية والنثرية) تناولاً سريعًا لم يستقصِ الأنساق الآيديولوجيّة فيها. ولكن مع ذلك تبقى هذه المقاربة من المقاربات النقدية العربيّة المهمة في مسألة تطوُّر الأنواع الأدبية العربيّة من خلال تحفيز المتلقي على المزيد من البحث للإجابة عن أسئلة البحث الكبرى. وهذا الكتاب وكتب عبدالله خليفة الفكرية الأخرى تمثَّل البنية الفكرية الآيديولوجية التي ينبغي لكلِّ باحث أن يحيط بها قبل قراءة مشروع عبدالله خليفة الروائيّ والقصصيّ.
{ أستاذة السرديات والنقد الأدبيّ الحديث المشارك، كلية الآداب، جامعة البحرين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك