العدد : ١٧٠٩٣ - الخميس ٠٩ يناير ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٩ رجب ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٩٣ - الخميس ٠٩ يناير ٢٠٢٥ م، الموافق ٠٩ رجب ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

حفلات تكساسية

طوال‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ستين‭ ‬سنة‭ ‬ظل‭ ‬كثيرون‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬العاصمة‭ ‬السودانية‭ ‬بمدنها‭ ‬الثلاث‭: ‬الخرطوم‭ ‬والخرطوم‭ ‬بحري‭ ‬وأم‭ ‬درمان،‭ ‬‮«‬يبرمجون‮»‬‭ ‬لليلة‭ ‬راس‭ ‬كل‭ ‬سنة‭ ‬جديدة،‭ ‬أي‭ ‬ينظمون‭ ‬الحفلات‭ ‬او‭ ‬يرتادونها،‭ ‬مستفيدين‭ ‬من‭ ‬ان‭ ‬اول‭ ‬يناير‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬سنة‭ ‬عطلة‭ ‬عامة‭ ‬في‭ ‬السودان،‭ ‬ولكن‭ ‬ليس‭ ‬لأمر‭ ‬يتعلق‭ ‬برأس‭ ‬سنة‭ ‬جديدة،‭ ‬بل‭ ‬بذكرى‭ ‬استقلال‭ ‬البلاد‭ (‬1‭ ‬يناير‭ ‬1956‭)‬،‭ ‬والشاهد‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬أهلي‭ ‬هؤلاء‭ ‬كانوا‭ ‬يحتفلون‭ ‬بمناسبة‭ ‬‮«‬دخيلة‮»‬‭ ‬على‭ ‬ثقافتهم‭ ‬الأصلية،‭ ‬ولا‭ ‬يحتفون‭ ‬كثيرا‭ ‬بمناسبة‭ ‬وطنية‭ ‬عالية‭ ‬الأهمية‭.‬

وليس‭ ‬من‭ ‬الشطط‭ ‬القول‭ ‬بأننا‭ ‬قوم‭ ‬لا‭ ‬نتقن‭ ‬صناعة‭ ‬الفرح،‭ ‬واسأل‭ ‬مائة‭ ‬شخص‭ ‬تلتقي‭ ‬بهم‭ ‬خلال‭ ‬الدقائق‭ ‬المقبلة‭ ‬عن‭ ‬برامجهم‭ ‬لعطلة‭ ‬نهاية‭ ‬الأسبوع‭ ‬الجاري،‭ ‬وسينظرون‭ ‬إليك‭ ‬في‭ ‬استغراب،‭ ‬لأن‭ ‬كلمة‭ ‬برنامج‭ ‬عندنا‭ ‬لا‭ ‬تستخدم‭ ‬في‭ ‬الشؤون‭/ ‬الحياة‭ ‬الخاصة‭ ‬وتحت‭ ‬إلحاحك‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬إجابة‭ ‬ستسمع‭ ‬في‭ ‬غالب‭ ‬الأحوال‭ ‬كلاما‭ ‬من‭ ‬شاكلة‭: ‬أسهر‭ ‬الخميس‭ ‬مع‭ ‬الشلة‭ ‬ويوم‭ ‬الجمعة‭ ‬أعطيها‭ ‬نومة‭ ‬للساعة‭ ‬11‭ ‬صباحا‭. ‬وكالعادة‭ ‬نتغدى‭ ‬عند‭ ‬عمي‭/ ‬خالتي‭. ‬وفي‭ ‬المساء‭ ‬نلعب‭ ‬ورق‭.. ‬نشرب‭ ‬شيشة‭.. ‬نتسكع‭ ‬في‭ ‬المول‭. ‬واترك‭ ‬الأفراد‭ ‬وانظر‭ ‬إلى‭ ‬مراسيم‭ ‬الزواج‭ ‬عندنا‭ (‬والزواج‭ ‬هو‭ ‬قمة‭ ‬الفرح‭ ‬في‭ ‬مسيرة‭ ‬كل‭ ‬إنسان‭ ‬بل‭ ‬إننا‭ ‬نسمي‭ ‬حفل‭ ‬الزواج‭ ‬‮«‬الفرح‮»‬‭. ‬في‭ ‬معظم‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬تشهد‭ ‬حفلاً‭ ‬للزواج،‭ ‬فتحسب‭ ‬أنك‭ ‬وقعت‭ ‬في‭ ‬كمين‭ ‬نصبه‭ ‬تنظيم‭ ‬‮«‬داعش‮»‬‭ ‬أو‭ ‬طالبان‭ ‬باكستان‭ ‬لنفر‭ ‬من‭ ‬جند‭ ‬العلوج‭: ‬طاااخ‭.. ‬طراااخ‭.. ‬بوووم‭ ‬باااام،‭ ‬إطلاق‭ ‬نار‭ ‬مكثف‭ ‬من‭ ‬الجهة‭ ‬الجنوبية‭ ‬يتصدى‭ ‬له‭ ‬مقاتلون‭ ‬أشاوس‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬الشمال‭. ‬وانظر‭ ‬هذا‭ ‬فتى‭ ‬يافع‭ ‬لم‭ ‬يتجاوز‭ ‬التاسعة‭ ‬يحمل‭ ‬مسدسا‭ ‬ويطلق‭ ‬النار‭ ‬بكفاءة‭ ‬عالية‭!! ‬ماذا‭ ‬تقول‭ ‬في‭ ‬قوم‭ ‬يستخدمون‭ ‬الذخيرة‭ ‬الحية‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬‮«‬الفرح»؟‭ ‬لو‭ ‬راجعت‭ ‬أرشيف‭ ‬بعض‭ ‬البلاد‭ ‬العربية‭ ‬ستكتشف‭ ‬أن‭ ‬ضحايا‭ ‬الممارسات‭ ‬التكساسية‭ ‬في‭ ‬الأفراح‭ ‬بالعشرات،‭ ‬بل‭ ‬قرأت‭ ‬قبل‭ ‬أيام‭ ‬عن‭ ‬عريس‭ ‬راح‭ ‬فطيس‭ ‬خلال‭ ‬حفل‭ ‬زفافه‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬طخه‭ ‬صديق‭ ‬كان‭ ‬مبتهجا‭ ‬بزواجه،‭ (‬ولعلك‭ ‬لاحظت‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬فوارق‭ ‬شكلية‭ ‬في‭ ‬تركيبة‭ ‬كلمتي‭ ‬بهجة‭ ‬وهياج‭)‬،‭ ‬هذا‭ ‬طبعا‭ ‬فوق‭ ‬أن‭ ‬العريس‭ ‬يكون‭ ‬وهو‭ ‬يستقبل‭ ‬المهنئين‭ ‬بابتسامة‭ ‬بلاستيكية،‭ ‬مهموما‭ ‬بأمر‭ ‬المبالغ‭ ‬التي‭ ‬اقترضها‭ ‬لشراء‭ ‬مستلزمات‭ ‬الزواج‭ ‬من‭ ‬ملابس‭ ‬ومجوهرات‭ ‬وتوفير‭ ‬أجرة‭ ‬القاعة‭ ‬أو‭ ‬السرادق‭/ ‬الصيوان‭ ‬وتكاليف‭ ‬إطعام‭ ‬المئات،‭ ‬وبالمقابل‭ ‬قد‭ ‬تسمع‭ ‬الزغاريد‭ ‬والأناشيد‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬أهل‭ ‬العروس‭ ‬ولكنهم‭ - ‬وفي‭ ‬غالب‭ ‬الأحوال‭ ‬يكونون‭ ‬قد‭ ‬أنفقوا‭ ‬شي‭ ‬وشويات‭ ‬كي‭ ‬يكون‭ ‬فرح‭ ‬بنتهم‭ ‬‮«‬على‭ ‬مستوى‮»‬‭.‬

‭ ‬ثم‭ ‬ما‭ ‬قولك‭ ‬فيمن‭ ‬يحتفلون‭ ‬بمقدم‭ ‬الربيع‭ ‬بتناول‭ ‬أسماك‭ ‬محنطة‭ ‬منذ‭ ‬عصر‭ ‬رمسيس‭ ‬الثاني؟‭ ‬‮«‬أتاك‭ ‬الربيع‭ ‬الطلق‭ ‬يختال‭ ‬ضاحكا‭/ ‬من‭ ‬الحسن‭ ‬حتى‭ ‬كاد‭ ‬أن‭ ‬يتكلما‮»‬،‭ ‬بيت‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬يضفي‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬البهاء‭ ‬على‭ ‬الربيع‭ ‬البهي‭ ‬أصلا،‭ ‬ولكننا‭ ‬جعلناه‭: ‬أتاني‭ ‬الفسيخ‭ ‬الزِّفر‭ ‬يحتال‭ (‬بالحاء‭) ‬ضاحكا‭/ ‬من‭ ‬الزفت‭ ‬حتى‭ ‬كدتُ‭ ‬أن‭ ‬أتبكما‭! ‬الكريسماس‭ ‬الذي‭ ‬يسميه‭ ‬البعض‭ ‬عيد‭ ‬ميلاد‭ ‬المسيح‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬له‭ ‬البتة‭ ‬بالمسيح،‭ ‬والمسيحيون‭ ‬يعرفون‭ ‬ذلك،‭ ‬ولكنهم‭ ‬جعلوا‭ ‬منه‭ ‬يوما‭ ‬للم‭ ‬شمل‭ ‬العائلات‭ ‬والفرفشة‭ ‬والسمر‭ ‬وتبادل‭ ‬الهدايا‭. ‬وبالمقابل‭ ‬فقد‭ ‬صرنا‭ ‬تدريجيا‭ ‬نتخلص‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬المظاهر‭ ‬البسيطة‭ ‬للفرح‭ ‬في‭ ‬أعيادنا،‭ ‬ولم‭ ‬نعد‭ ‬نتزاور‭ ‬ونجتمع‭ ‬في‭ ‬بيوت‭ ‬معينة‭. ‬لا‭ ‬وقت‭ ‬لكل‭ ‬ذلك‭. ‬تكتب‭ ‬مسجا‭/‬رسالة‭ ‬واحدة‭ ‬على‭ ‬الهاتف‭ ‬الجوال‭ ‬وترسلها‭ ‬الى‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬ينبغي‭ ‬عليك‭ ‬زيارتهم‭ ‬ومشاركتهم‭ ‬فرحة‭ ‬العيد،‭ ‬وتقول‭ ‬لنفسك‭ ‬‮«‬عملت‭ ‬الواجب‮»‬‭ ‬وكأن‭ ‬المعايدة‭ ‬واجب‭ ‬مدرسي‭ ‬ثقيل‭ ‬على‭ ‬النفس،‭ ‬ثم‭ ‬جاءت‭ ‬الهواتف‭ ‬الذكية‭ ‬و‮«‬باظت‮»‬‭ ‬المسألة‭ ‬ع‭ ‬الآخر،‭ ‬لأنها‭ ‬جعلت‭ ‬الاتصالات‭ ‬الهاتفية‭ ‬تسلية،‭ ‬وقد‭ ‬يأتيك‭ ‬ضيف‭ ‬للمعايدة‭ ‬وأثناء‭ ‬حديثك‭ ‬معه‭ ‬تلاحظ‭ ‬أنه‭ ‬‮«‬يوتسب‮»‬،‭ ‬ويرد‭ ‬على‭ ‬كلامك‭ ‬بمفردات‭ ‬عديمة‭ ‬المعنى‭ ‬لأنه‭ ‬‮«‬غير‭ ‬مركِّز‮»‬‭ ‬معك‭: ‬بالله؟‭ ‬نعم‭ ... ‬مممم

ولأننا‭ ‬لا‭ ‬نتقن‭ ‬صناعة‭ ‬الفرح،‭ ‬فإن‭ ‬تجمعاتنا‭ ‬في‭ ‬المناسبات‭ ‬المفرحة‭ ‬روتينية‭ ‬فيجتمع‭ ‬ستة‭ ‬أو‭ ‬عشرة‭ ‬أشخاص‭ ‬تحت‭ ‬سقف‭ ‬واحد‭ ‬ويتونس‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منا‭ ‬فقط‭ ‬مع‭ ‬من‭ ‬يجلس‭ ‬الى‭ ‬جواره،‭ ‬وأعزو‭ ‬هذا‭ ‬مجددا‭ ‬إلى‭ ‬عدم‭ ‬ميلنا‭ ‬إلى‭ ‬برمجة‭ ‬لقاءاتنا‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬تلك‭ ‬المناسبات‭.. ‬وحتى‭ ‬حدائقنا‭ ‬العامة‭ ‬تصبح‭ ‬مقرفة‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬المناسبات‭ ‬لأننا‭ ‬نذهب‭ ‬اليها‭ ‬محملين‭ ‬بالطعام‭ ‬والشراب‭ ‬ثم‭ ‬نغادرها،‭ ‬وتمر‭ ‬بمثل‭ ‬تلك‭ ‬الحديقة‭ ‬بعد‭ ‬انصراف‭ ‬الناس‭ ‬فتحسب‭ ‬نفسك‭ ‬في‭ ‬‮«‬حلب‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬الخرطوم‮»‬‭ ‬الحاليتين‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا