يعتبر الحوار في الإسلام مبدأ أساسيا من مبادئ الدعوة إلى الله عز وجل، فالقرآن الكريم يعتبر الحوار بالتي هي أحسن أسلوبا حقا يتعامل به المسلم مع كل من يخالفه الرأي والاعتقاد، أيا كانت درجة الاختلاف والتباين.
ويراد بالحوار والجدال في مصطلح الناس مناقشة بين طرفين أو أطراف يقصد بها تصحيح كلام وإظهار حجة، وإثبات حق ودفع شبهة، ورد الفاسد من القول والرأي، وذلك من أجل معرفة الحقيقة والتوصل إليها، أو العمل على الأقل على إيجاد حل وسط يرضي الأطراف.
لقد اقتضت حكمة الله تعالى أن يخلق الناس مختلفين متباينين في النظر والفهم والتفكير.
ولا شك أن هذا الاختلاف هو مظهر من مظاهر التجدد وتلاقح الأفكار مادام منضبطا بضوابط الاختلاف المشروع، وقد كان علماؤنا الأسلاف على وعي كامل بفقه الاختلاف وأسسه، ولذلك أجروا عليه الأحكام الشرعية تبعا لما يؤدي إليه من نفع أو ضرر، وهذا الاختلاف الظاهري يدل على الاختلاف في الآراء والاتجاهات والأغراض، وهو ما يؤكده قوله تعالى: «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم».
يقول الفخر الرازي: «والمراد اختلاف الناس في الأديان والأخلاق والأفعال». فالله سبحانه وتعالى قد خلق الناس بمقتضى حكمته كاسبين للعلم لا ملهمين، وعاملين بالاختيار وترجيح بعض الممكنات المتعارضات على بعض، لا مجبورين ولا مضطرين، وجعلهم متفاوتين في الاستعداد وكسب العلم واختلاف الاختيار.
ومما يشهد لحق الاختلاف ومشروعيته بعض الإشارات القرآنية واللمحات اللطيفة من السنة النبوية. مثال اختلاف أفهام داود وسليمان عليهما السلام حين قال تعالى: «ففهمناها سليمان، وكلا آتينا حكما وعلما». ومثال اختلاف الصحابة في فهم التوجيه النبوي بشأن صلاة العصر في بني قريظة). والاختلاف المشروع يكون مصدر دائما اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، والتنوع يكون مصدر إثراء وخصوبة، وهو آية من آيات الله، الدالة على عظيم قدرته وبديع حكمته «ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين».
والاختلاف مع كونه ضرورة هو كذلك رحمة بالأمة وتوسعة عليها، وقد روي في ذلك حديث اشتهر على الألسنة لا يعرف له سند وإن كان صحيح المعنى، وهو ما ذكره السيوطي في جامعه الصغير «اختلاف أمتي رحمة»
وهكذا حينما تسلم إذن، حق الاختلاف ومشروعيته، فإن أمر الجدال والنقاش بين المختلفين يبقى واردا، فكل واحد يريد تبرير وجهة نظره وتدعيم رأيه بالحجة والبرهان، مقابل الرأي الآخر، وهنا نجد الإسلام يأمرنا بالتزام مبدأ الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن، فهو دين «هاتوا برهانكم»، وهي كلمة ضبطت أسس الحوار وسيرته على منهج سليم، يقول تعالى: «أم اتخذوا من دونه آلهة، قل هاتوا برهانكم، هذا ذكر من معي وذكر من قبلي» أي ليس لكم دليل عقلي ولا نقلي على وجود إله آخر.
إن خالق الكل وضابط الكل هو الله الواحد، ويزداد هذا المعنى وضوحا في قوله تعالى: «أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض، أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين». فنحن عندما نتحدث مع الآخرين في ديننا يجب أن نتبع هذا المنهج القرآني الخالد، فنحرر القضايا ونضبط المفاهيم، ونزن الحجج، وننصف الخصوم من أنفسنا وأنفسهم.
وفيما يلي نص قرآني رائع يعتبر من أبرز نماذج حوار القرآن مع المخالفين، وكيف يتنزل معهم في الكلام ويرخي لهم العنان ليستميلهم إليه، ويقربهم إلى ساحته، ولا يستشير دوافع الخصومة وحب الجدال في نفوسهم. يقول تعالى في سورة سبأ: «قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله، وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين، قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون، قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق، وهو الفتاح العليم».
يقول الفخر الرازي في تفسير هذه الآيات: «هذا إرشاد من الله لرسوله إلى المناظرات الجارية في العلوم وغيرها، وذلك لأن أحد المتناظرين إذا قال للآخر: هذا الذي تقوله خطأ وأنت فيه مخطئ يغضبه، وعند الغضب لا يبقى سداد الفكر، وعند اختلاله لا مطمع في الفهم، فيفوت الغرض، وإذا ما قال له إن أحدنا لا يشك في أنه مخطئ، والتمادي في الباطل قبيح، والرجوع إلى الحق أحسن الأخلاق، فنجتهد ويبصر أينا الآخر ليحترز، فإنه يجتهد ذلك الخصم في النظر، ويترك التعصب وذلك لا يوجب نقصا في المنزلة».
أسس الحوار في الإسلام:
يكتسي الحوار في الإسلام ضابطا خاصا من حيث أهميته في التقريب بين الأطراف والآراء والمواقف والخيارات، ولذلك فإن «الحوار» وإن لم يرد بهذا اللفظ في الاستعمال القرآني إلا أن كثيرا من الدلالات والأسس التي يقوم عليها، قد نص عليها القرآن في آيات عدة. وأشارت إليه كثير من الأحاديث النبوية، ويمكن التركيز على أبرز هذه الأسس كما يلي:
أولا: النهي عن الجدال المذموم، إذ منه ما هو صحيح وحق، ومنه ما هو باطل، وقد أمر الله بالجدل المحمود في مواضع من القرآن، مثل قوله تعالى: «وجادلهم بالتي هي أحسن» وقوله تعالى: «ولا تجادل أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن»، أما الجدل المذموم فهو ما كان من أجل الباطل، وهو المراء واللدد في الخصومة، حيث يسعى كل طرف إلى الغلبة على الخصم بأي وجه دون أدنى التزام بقواعد المنطق السليم.
وفي مثل هذا يقول تعالى: «وجادلهم بالباطل ليدحضوا به الحق»، ومنه ما كان عن أهل الباطل كقوله تعالى: «ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم» ومنه ما كان عن غير بينة كقوله سبحانه: «ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير»، ومنه ما كان مقرونا بالاستكبار، وفي مثله يقول تعالى: «إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه»، وبهذا الفرق بين الجدل المحمود والجدل المذموم يزول التعارض في الظاهر بين النصوص.
ولما كان الحوار وتبادل وجهات النظر بين الناس نوعا من النصيحة المأمور بها، فإنه لا مجال للتهرب منه، كما يفعل البعض، بحجة أن ذلك من الجدل المذموم، مستدلين بمثل قوله صلى الله عليه وسلم: «ما ضل قوم بعد هدي كانوا عليه إلا أوتوا الجدل». ثم قرأ: «ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون»، وبمثل قوله عليه الصلاة والسلام: «أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم».
والألد: الشديد الخصومة، مأخوذ من لديدي الوادي أي جانبيه، لأنه كلما احتج عليه بحجة، أخذ في جانب آخر، والخصم: الحاذق بالخصومة. وقد جاء اللفظ الأول في الاستعمال القرآني في سياق ذم المشركين في قوله تعالى: «فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا» (18)، أما اللفظ الثاني فجاء في قوله تعالى: «ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام».
ثانيا: التشجيع على التعارف بين الناس، ويدل عليه قوله تعالى: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا».
ثالثا: التشجيع على البر بغير المسلمين، المسالمين، وحسن معاملتهم، ويشهد له قوله تعالى: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين». أما الذين يقاتلون ولا يسالمون من غير المسلمين فيقول عنهم عز وجل في الآية التي بعدها: «إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون».
رابعا: النهي عن الإكراه في الدين «لا إكراه في الدين».
ولما كان الإسلام الدين الكامل والنعمة التي أتمها الله لعباده، ولم يشأ الحق سبحانه وتعالى أن يكون الإيمان به عن قسر وإكراه حتى يكون وصول العبد إلى خالقه بكامل إرادته واختياره. ولذلك لم تأت مشروعية القتال في الإسلام إلا تأكيدا لمبدأ حرية العقيدة وحماية الدين، ومن ثم فقد شرع الإسلام الجهاد للدفاع عن الدين ممن يلاحقون أتباعه بالأذى ويجاهرون دعوته بالحرب، ردا للفتنة، وقطعا لدابر الشر، قال تعالى: «وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين». فهو إذن لا يعدو أن يكون وسيلة حوار من جنس ما يتحاور به الأعداء، فقد جعل الله سبب الجهاد دفع الأذى ورد الفتنة، ولم يكن من مقاصده إرغام الناس للدخول في دين الله، فذلك فضل الله، يهدي الله لنوره من يشاء.
ولم يجعل الله تعالى هداية القلوب في مقدور أحد من خلقه ولو كان رسولا: «إنك لا تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء، وهو أعلم بالمهتدين». فالله عز وجل يوجب على عباده التزام في الدعوة إلى الله والتعاطف والمودة والمحبة، وان يتركوا أمور الهداية إلى الهادي القدير، وأن يبتعدوا عن التطرف وأساليب الغلظة والفظاظة والإكراه، فالمسلمون مكلفون بالدعوة إلى دينهم بالحكمة والموعظة الحسنة والحوار بالحجة والعقل والبرهان.
خامسا: الدعوة إلى التسامح: فالإسلام دين يدين التعصب والتطرف، ويدعو بالمقابل إلى الحوار والجدال والمتسامح الذي يقبل الرأي الآخر، ويناقشه بالتي هي أحسن، فاحترام الرأي الآخر يعتبر من الدعائم القوية لتقريب الشقة بين المتحاورين، وتقليل حدة الخلاف بينهما، وهذا مبني على أصل مهم، هو أن كل ما لم يكن قطعيا من الأحكام، فهو محل الاجتهاد فهو يقبل الاختلاف.
فالموقف المتسامح ينتج عنه دوما حوار هادئ وفعال، والتسامح في حالة الحرب يظهر في الصلح والسلم، وقد دعا القرآن الكريم إلى السلم في آيات عدة، منها قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة، ولا تتبعوا خطوات الشيطان، إنه لكم عدو مبين»، وقوله عز وجل: «وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله».
فالإسلام -إذن- دين السماحة والتسامح ليس بين المسلمين فحسب، ولكن أيضا حيال أصحاب الديانات السماوية الأخرى، سواء كانوا يعيشون بين ظهراني المسلمين، وهم أهل الذمة، أو كانوا يعيشون في مجتمعات أخرى مخالفة، وبالنسبة لهؤلاء نهى الإسلام عن مجادلتهم إلا بالتي هي أحسن، فقال تعالى: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن».
وإذا كان التسامح مع الآخر من مميزات الإسلام، الدالة على النظرة الانفتاحية التي تجسدها الديانة الإسلامية، فإن فتح أبواب الحوار معه، وتأسيس سبل التفاهم والتعايش، يعتبر من الضروريات الأساسية التي تتطلبها المتغيرات الحديثة، ويبقى هذا النوع من الحوار بين الإسلام وغيره من الديانات السماوية مفتوحا وشاملا لا يستبعد منه إلا الشرك الذي ليس موضوع نقاش أو جدال.
يقول عز من قائل: «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله».
*باحث في الفكر الإسلامي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك