العدد : ١٦٨٥٩ - الاثنين ٢٠ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ١٢ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

العدد : ١٦٨٥٩ - الاثنين ٢٠ مايو ٢٠٢٤ م، الموافق ١٢ ذو القعدة ١٤٤٥هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

ليس للنجاح معيار ثابت (2)

عطفا‭ ‬على‭ ‬مقالي‭ ‬ليوم‭ ‬أمس،‭ ‬أقول‭ ‬إنه‭ ‬اتصل‭ ‬بي‭ ‬صديق‭ ‬يعتزم‭ ‬اصدار‭ ‬كتاب‭ ‬عن‭ ‬شخصيات‭ ‬سودانية‭ ‬يعتبرها‭ ‬ناجحة،‭ ‬أن‭ ‬أكتب‭ ‬عن‭ ‬تجربتي‭ ‬ومسيرتي‭ ‬باعتباري‭ ‬أحد‭ ‬الناجحين،‭ ‬وقلت‭ ‬إن‭ ‬مجرد‭ ‬كتابتي‭ ‬لهذه‭ ‬الكلمات‭ ‬لتنشر‭ ‬في‭ ‬صحيفة‭ ‬عربية‭ ‬ظلت‭ ‬تنشر‭ ‬مقالاتي‭ ‬يوميا‭ ‬على‭ ‬مدى‭ ‬سنوات‭ ‬طوال،‭ ‬نجاح‭ ‬ما‭ ‬بعده‭ ‬نجاح،‭ ‬لأنني‭ ‬أكتب‭ ‬هذه‭ ‬السطور‭ ‬بلغة‭ (‬عربية‭) ‬هي‭ ‬ليست‭ ‬لغتي‭ ‬الأم،‭ ‬لأنني‭ ‬نشأت‭ ‬ناطقا‭ ‬باللغة‭ ‬النوبية‭ ‬وهي‭ ‬أقدم‭ ‬من‭ ‬العربية‭ ‬واللاتينية،‭ ‬ولا‭ ‬قواسم‭ ‬مشتركة‭ ‬بينها‭ ‬وبين‭ ‬أي‭ ‬لغة‭ ‬أخرى‭ ‬خارج‭ ‬إفريقيا‭.‬

وتقودني‭ ‬هذه‭ ‬النقطة‭ ‬الى‭ ‬نجاح‭ ‬آخر‭ ‬لي‭ ‬وهو‭ ‬أنه‭ ‬وبرغم‭ ‬قوة‭ ‬انتمائي‭ ‬الى‭ ‬الحضارة‭ ‬والثقافة‭ ‬النوبية،‭ ‬إلا‭ ‬أنني‭ ‬قوي‭ ‬الانتماء‭ ‬لكل‭ ‬السودان‭ ‬وأحب‭ ‬كل‭ ‬أهل‭ ‬السودان،‭ ‬ولم‭ ‬ولن‭ ‬أمارس‭ ‬الاستعلاء‭ ‬على‭ ‬جنس‭ ‬او‭ ‬عرق‭ ‬أو‭ ‬قبيلة‭. ‬وبداهة‭ ‬فلست‭ ‬أول‭ ‬ولا‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬‮«‬نجح‮»‬‭ ‬في‭ ‬مضمار‭ ‬الانتماء‭ ‬لعموم‭ ‬الوطن،‭ ‬فهناك‭ ‬الملايين‭ ‬الذين‭ ‬هم‭ ‬أكثر‭ ‬استعدادا‭ ‬مني‭ ‬لخدمة‭ ‬الوطن‭ ‬والدفاع‭ ‬عن‭ ‬حقوق‭ ‬مواطنيه،‭ ‬وأريد‭ ‬لهؤلاء‭ ‬أن‭ ‬يحسوا‭ ‬ويسعدوا‭ ‬بكونهم‭ ‬‮«‬ناجحين‮»‬‭ ‬ويا‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬الوطن‭ ‬فاشلون‭ ‬وخونة‭ ‬لا‭ ‬يترددون‭ ‬في‭ ‬بيع‭ ‬ذممهم‭ ‬وضمائرهم،‭ ‬بل‭ ‬وبعض‭ ‬تراب‭ ‬الوطن‭ ‬لقاء‭ ‬مكاسب‭ ‬شخصية‭.‬

طرحت‭ ‬قبل‭ ‬سنوات‭ ‬كتابي‭ ‬الثالث‭: ‬‮«‬سيرة‭ ‬وطن‭ ‬في‭ ‬مسيرة‭ ‬زول‮»‬،‭ ‬لخصت‭ ‬فيه‭ ‬جوانب‭ ‬من‭ ‬مشوار‭ ‬حياتي‭ ‬في‭ ‬ضوء‭ ‬النقلات‭ ‬والمنعطفات‭ ‬التي‭ ‬مر‭ ‬بها‭ ‬الوطن،‭ ‬ولا‭ ‬بأس‭ ‬من‭ ‬استحضار‭ ‬مشاهد‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬المشوار،‭ ‬لأفسر‭ ‬وأبرر‭ ‬لماذا‭ ‬أعتقد‭ ‬انني‭ ‬‮«‬ناجح‮»‬‭: ‬أنتمي‭ ‬لجزيرة‭ ‬نهرية‭ ‬لا‭ ‬تجد‭ ‬لها‭ ‬ذكرا‭ ‬في‭ ‬الأطالس،‭ ‬ولأسرة‭ ‬نوبية‭ ‬بسيطة،‭ ‬وعانيت‭ ‬الأمرين‭ ‬خلال‭ ‬السنوات‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬مسيرتي‭ ‬الأكاديمية،‭ ‬بسبب‭ ‬حاجز‭ ‬اللغة،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬العربية‭ ‬لغة‭ ‬التدريس،‭ ‬وكان‭ ‬معظمنا‭ ‬أطرش‭ ‬في‭ ‬الزفة‭ ‬لعدم‭ ‬استيعابنا‭ ‬ما‭ ‬يقوله‭ ‬المعلمون،‭ ‬وفي‭ ‬زمن‭ ‬كان‭ ‬فيه‭ ‬نحو‭ ‬ألف‭ ‬تلميذ‭ ‬يتنافسون‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬80‭ ‬مقعدا‭ ‬في‭ ‬المدارس‭ ‬المتوسطة،‭ ‬كنت‭ ‬ضمن‭ ‬المحظوظين‭ ‬الثمانين‭ (‬ولكن‭ ‬في‭ ‬الجولة‭ ‬الثانية‭ ‬لأنني‭ ‬أخفقت‭ ‬في‭ ‬الجولة‭ ‬الأولى‭)‬،‭ ‬وفي‭ ‬المدرسة‭ ‬المتوسطة‭ ‬كانت‭ ‬تنتظرني‭ ‬مفاجأة‭ ‬مفجعة‭ ‬وهي‭ ‬فرع‭ ‬الرياضيات‭ ‬المسمى‭ ‬‮«‬الجبر‮»‬‭.‬

ظهرت‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬لعبة‭ ‬الأرقام‭ ‬المعروفة‭ ‬باسم‭ ‬سودوكو،‭ ‬ولا‭ ‬يستطيع‭ ‬التوصل‭ ‬الى‭ ‬الحل‭ ‬الصحيح‭ ‬فيها‭ ‬إلا‭ ‬ذو‭ ‬بأس‭ ‬وجلد‭ ‬وقدرة‭ ‬على‭ ‬التركيز،‭ ‬لأنك‭ ‬مطالب‭ ‬بملء‭ ‬تسعة‭ ‬مربعات‭ ‬موجودة‭ ‬داخل‭ ‬مربع‭ ‬واحد‭ ‬كبير‭ ‬بالأعداد‭ ‬من‭ ‬1‭ ‬إلى‭ ‬9‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتكرر‭ ‬أي‭ ‬عدد‭ ‬داخل‭ ‬المربع‭ ‬الصغير‭ ‬الواحد‭ ‬أو‭ ‬طوليا‭ ‬أو‭ ‬أفقيا‭ ‬في‭ ‬المربع‭ ‬الكبير‭. ‬والسودوكو‭ ‬مقارنة‭ ‬بالجبر‭ ‬مجرد‭ ‬‮«‬تسلية‮»‬،‭ ‬ومنذ‭ ‬أول‭ ‬‮«‬حصة‮»‬‭ ‬كتب‭ ‬فيها‭ ‬مدرس‭ ‬الرياضيات‭ ‬س‭+ ‬ص،‭ ‬وقف‭ ‬دماغي‭ ‬ضد‭ ‬ذلك‭ ‬العلم‭ ‬بالمرصاد،‭ ‬وأصبحنا‭ ‬أنا‭ ‬والجبر‭ ‬‮«‬الشحمة‭ ‬والنار‮»‬،‭ ‬وهذه‭ ‬عبارة‭ ‬سودانية‭ ‬تعني‭ ‬عدم‭ ‬التوافق،‭ ‬لأن‭ ‬الشحم‭ ‬والنار،‭ ‬عدوان‭ ‬لدودان،‭ ‬وحدثت‭ ‬القطيعة‭ ‬التامة‭ ‬بيني‭ ‬وبين‭ ‬كافة‭ ‬فروع‭ ‬علم‭ ‬الرياضيات،‭ ‬ولكنني‭ ‬‮«‬لهلوبة‮»‬‭ ‬في‭ ‬السودوكو‭.‬

في‭ ‬زماننا‭ ‬ذاك‭ ‬كان‭ ‬الحافز‭ ‬على‭ ‬التفوق‭ ‬الأكاديمي‭ ‬ذاتيا،‭ ‬لأن‭ ‬معظم‭ ‬أولياء‭ ‬الأمور‭ ‬وقتها‭ ‬لم‭ ‬يكونوا‭ ‬مهووسين‭ ‬كنظرائهم‭ ‬في‭ ‬عالمنا‭ ‬الراهن،‭ ‬بأن‭ ‬يصبح‭ ‬عيالهم‭ ‬دكاترة‭ ‬ومهندسين،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬كثير‭ ‬منا‭ ‬يسمع‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬الوالدين‭ ‬أو‭ ‬كليهما‭ ‬عبارة‭ ‬‮«‬كفاية‭ ‬قراية‮»‬،‭ ‬وكنت‭ ‬في‭ ‬قرارة‭ ‬نفسي‭ ‬أعرف‭ ‬أنه‭ ‬لو‭ ‬شكوت‭ ‬لأمي‭ ‬أو‭ ‬لأبي‭ ‬عن‭ ‬معاناتي‭ ‬مع‭ ‬الجبر،‭ ‬لجبروا‭ ‬خاطري‭ ‬بإخراجي‭ ‬من‭ ‬المدرسة‭ ‬نهائيا،‭ ‬فما‭ ‬من‭ ‬أم‭ ‬أو‭ ‬أب‭ ‬يرضى‭ ‬لبنته‭ ‬أو‭ ‬ابنه‭ ‬‮«‬الذل‮»‬‭.‬

وأحسب‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬حملني‭ ‬على‭ ‬عدم‭ ‬الشكوى‭ ‬هو‭ ‬ليس‭ ‬حبي‭ ‬لـ«التعلم‮»‬،‭ ‬بصفة‭ ‬عامة‭ ‬بل‭ ‬شغفي‭ ‬الشديد‭ ‬بـ«القراءة‮»‬،‭ ‬فقد‭ ‬كنت‭ ‬قارئا‭ ‬نهما،‭ ‬وقرأت‭ ‬جميع‭ ‬الكتب‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬مكتبة‭ ‬مدرسة‭ ‬بدين‭ ‬الأولية‭ (‬الابتدائية‭)‬،‭ ‬وعند‭ ‬انتقالي‭ ‬الى‭ ‬مدرسة‭ ‬البرقيق‭ ‬الوسطى‭ ‬كنت‭ ‬قبل‭ ‬إكمال‭ ‬تلك‭ ‬المرحلة‭ ‬بعام‭ ‬كامل،‭ ‬قد‭ ‬قرأت‭ ‬كل‭ ‬الروايات‭ ‬الإنجليزية‭ ‬في‭ ‬مكتبتها،‭ ‬وهكذا‭ ‬بدأت‭ ‬قصة‭ ‬حبي‭ ‬للغة‭ ‬الإنجليزية،‭ ‬فجعلت‭ ‬منها‭ ‬سلاحا‭ ‬أكاديميا‭ ‬يعوضني‭ ‬فارق‭ ‬الدرجات‭ ‬التي‭ ‬تضيع‭ ‬علي‭ ‬في‭ ‬مادة‭ ‬الرياضيات،‭ ‬بل‭ ‬وفي‭ ‬زمن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬فيه‭ ‬الطلاب‭ ‬يقسّمون‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية‭ ‬الى‭ ‬‮«‬علمي‮»‬‭ ‬و‭ ‬‮«‬أدبي‮»‬‭ ‬كنت‭ ‬قد‭ ‬حسمت‭ ‬أمر‭ ‬مسيرتي‭ ‬الأكاديمية‭ ‬بأنني‭ ‬بالتأكيد‭ ‬لن‭ ‬ألتحق‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الجامعية‭ ‬بكلية‭ ‬تدرّس‭ ‬فيها‭ ‬أي‭ ‬مادة‭ ‬فيها‭ ‬‮«‬س‮»‬‭ ‬و‭ ‬‮«‬ص‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬أرقام‭ ‬صريحة،‭ ‬وهكذا‭ ‬قررت‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬مبكرة‭ ‬من‭ ‬العمر‭ ‬أن‭ ‬الإنجليزية‭ ‬هي‭ ‬سلاحي‭ ‬الأكاديمي،‭ ‬وبالتالي‭ ‬ستكون‭ ‬سلاحي‭ ‬المهني‭ ‬بعد‭ ‬دخولي‭ ‬الحياة‭ ‬العملية‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا