العدد : ١٧٠٦٨ - الأحد ١٥ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٤ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٦٨ - الأحد ١٥ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٤ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

اطلالة

هالة كمال الدين

halakamal99@hotmail.com

الانسحاب الرابح

لست‭ ‬من‭ ‬الغارقين‭ ‬بشدة‭ ‬فيما‭ ‬يسمى‭ ‬بنظرية‭ ‬المؤامرة،‭ ‬وإن‭ ‬كنت‭ ‬أؤمن‭ ‬بها‭ ‬بقدر‭ ‬ما،‭ ‬ولكني‭ ‬في‭ ‬خضم‭ ‬ما‭ ‬نعيشه‭ ‬اليوم‭ ‬من‭ ‬أحداث‭ ‬غزة‭ ‬الأليمة‭ ‬المدمية‭ ‬للقلوب،‭ ‬توقفت‭ ‬مؤخرا‭ ‬عند‭ ‬مقولة‭ ‬عن‭ (‬آفة‭ ‬التدخين‭) ‬للشيخ‭ ‬العلامة‭ ‬إبراهيم‭ ‬اللقاني،‭ ‬والتي‭ ‬تؤكد‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬زين‭ ‬شرب‭ ‬الدخان‭ ‬للمسلمين‭ ‬بعد‭ ‬الشيطان‭ ‬الرجيم‭ ‬هو‭ ‬رجل‭ ‬من‭ ‬اليهود،‭ ‬وذلك‭ ‬بحسب‭ ‬ما‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬حاشية‭ ‬ابن‭ ‬حمدون‭ ‬على‭ ‬شرح‭ ‬ميارة‭ ‬ما‭ ‬نصه‭:‬

‮«‬قال‭ ‬اللقاني‭ ‬رحمه‭ ‬الله،‭ ‬لا‭ ‬أعلم‭ ‬من‭ ‬تكلم‭ ‬على‭ ‬الدخان‭ ‬من‭ ‬أطباء‭ ‬الإسلام،‭ ‬ولا‭ ‬غيرهم‭ ‬ممن‭ ‬يعول‭ ‬عليه،‭ ‬وإنما‭ ‬أحدث‭ ‬القول‭ ‬فيه‭ ‬يهودي‭ ‬بالمغرب‭ ‬الأقصى‭ ‬وأبرز‭ ‬فيه‭ ‬نظاما‭ ‬زاد‭ ‬السفهاء‭ ‬فيه‭ ‬ونقصوا‭ ‬ولعبوا‭ ‬به،‭ ‬فصفقوا‭ ‬ورقصوا‮»‬‭!‬

اليوم،‭ ‬ومع‭ ‬النجاح‭ ‬الباهر‭ ‬وبامتياز‭ ‬لهذا‭ ‬المشروع‭ ‬الدخاني‭ ‬اليهودي‭ ‬القاتل،‭ ‬تقدر‭ ‬منظمة‭ ‬الصحة‭ ‬العالمية‭ ‬ومركز‭ ‬أطلس‭ ‬للتبغ‭ ‬عدد‭ ‬المدخنين‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬مليار‭ ‬شخص‭ ‬حول‭ ‬العالم‭ ‬يستهلكون‭ ‬خمسة‭ ‬آلاف‭ ‬مليار‭ ‬سيجارة،‭ ‬ناهيك‭ ‬عن‭ ‬استفحال‭ ‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬وتوحشها‭ ‬في‭ ‬صور‭ ‬أخرى‭ ‬مختلفة‭ ‬كالشيشة‭ ‬والسيجارة‭ ‬الإلكترونية‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الابتكارات‭ ‬التي‭ ‬تشبع‭ ‬جشع‭ ‬تجار‭ ‬وصناع‭ ‬هذه‭ ‬السموم‭ ‬المتصاعد‭ ‬يوما‭ ‬بعد‭ ‬يوم‭.‬

‭ ‬يحضرني‭ ‬هنا‭ ‬ما‭ ‬ذكره‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الفرنسي‭ ‬الشهير‭ ‬جان‭ ‬بول‭ ‬سارتر‭ ‬حين‭ ‬قال‭ ‬بعد‭ ‬استجابته‭ ‬لنصيحة‭ ‬صديق‭ ‬له‭ ‬بالإقلاع‭ ‬عن‭ ‬التدخين‭:‬

‮«‬بإمكان‭ ‬المفكر‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬السيجارة،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يؤثر‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬إنتاجه،‭ ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬المعركة‭ ‬مع‭ ‬الامتناع‭ ‬عن‭ ‬التدخين‭ ‬شاقة،‭ ‬ولكني‭ ‬لم‭ ‬أهتم‭ ‬بطعم‭ ‬التبغ‭ ‬الذي‭ ‬افتقدته‭ ‬بقدر‭ ‬اهتمامي‭ ‬بمعنى‭ ‬فعل‭ ‬التدخين‭ ‬الذي‭ ‬وجدته‭ ‬شيئا‭ ‬تافها‭ ‬ضئيلا‮»‬‭! ‬

تلك‭ ‬هي‭ ‬الرسالة‭ ‬لكل‭ ‬من‭ ‬يتمسك‭ ‬بهذه‭ ‬العادة‭ ‬الفتاكة،‭ ‬وارتبط‭ ‬بها‭ ‬عاطفيا،‭ ‬وتوهم‭ ‬بأنه‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬التخلي‭ ‬عنها‭ ‬أو‭ ‬الفرار‭ ‬منها،‭ ‬وإلى‭ ‬من‭ ‬ينظر‭ ‬إليها‭ ‬أحيانا‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬الإصبع‭ ‬السادس‭ ‬الذي‭ ‬يحترق‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬صاحبها،‭ ‬وكذلك‭ ‬إلى‭ ‬كل‭ ‬شاب‭ ‬اتخذ‭ ‬منها‭ ‬رمزا‭ ‬للرجولة،‭ ‬وإلى‭ ‬أي‭ ‬فتاة‭ ‬اعتبرتها‭ ‬مصدرا‭ ‬للمباهاة‭ ‬أو‭ ‬للمساواة‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬حادث‭ ‬اليوم‭.‬

إن‭ ‬إيذاء‭ ‬الذات‭ ‬غير‭ ‬الانتحاري‭ ‬يعد‭ ‬أحد‭ ‬أكثر‭ ‬أوبئة‭ ‬الصحة‭ ‬العقلية‭ ‬والنفسية‭ ‬إثارة‭ ‬للصدمة‭ ‬في‭ ‬عصرنا‭ ‬الحالي،‭ ‬ولعل‭ ‬التدخين‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬مشروعا‭ ‬يهوديا‭ ‬أو‭ ‬صهيونيا‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬شيطانيا‭ ‬هو‭ ‬أكثر‭ ‬تلك‭ ‬الأوبئة‭ ‬شيوعا‭ ‬وتجسيدا‭ ‬لتدمير‭ ‬النفس‭ ‬البشرية،‭ ‬خاصة‭ ‬وأن‭ ‬آثاره‭ ‬الخطيرة‭ ‬لا‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬المدخن‭ ‬بل‭ ‬تطال‭ ‬الآخرين‭ ‬وتصيبهم‭ ‬في‭ ‬مقتل‭. ‬

لا‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬قرار‭ ‬الإقلاع‭ ‬عن‭ ‬التدخين‭ ‬ليس‭ ‬بالأمر‭ ‬اليسير‭ ‬لما‭ ‬يتطلبه‭ ‬من‭ ‬توفر‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المهارات‭ ‬والتضحيات‭ ‬لدى‭ ‬الراغب‭ ‬في‭ ‬اتخاذه،‭ ‬ولكنه‭ ‬في‭ ‬نفس‭ ‬الوقت‭ ‬ليس‭ ‬مستحيلا،‭ ‬خاصة‭ ‬إذا‭ ‬علمنا‭ ‬بأن‭ ‬حوالي‭ ‬70‭%‬‭ ‬من‭ ‬المدخنين‭ ‬يرغبون‭ ‬بالتوقف‭ ‬عن‭ ‬ممارسة‭ ‬هذه‭ ‬العادة‭ ‬اللعينة‭ ‬وذلك‭ ‬بحسب‭ ‬الأبحاث‭ ‬والدراسات،‭ ‬وأنهم‭ ‬يبحثون‭ ‬عن‭ ‬الطرق‭ ‬والوسائل‭ ‬المساعدة‭.‬

من‭ ‬هنا‭ ‬تأتي‭ ‬أهمية‭ ‬الدور‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تلعبه‭ ‬جميع‭ ‬الأطراف‭ ‬ذات‭ ‬الاختصاص،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬اللجنة‭ ‬الوطنية‭ ‬لمكافحة‭ ‬التدخين‭ ‬والتبغ‭ ‬بأنواعه‭ ‬ومنتجاته‭ ‬التي‭ ‬أنشئت‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬2009‭ ‬بمرسوم‭ ‬ملكي‭ ‬بمملكة‭ ‬البحرين،‭ ‬وذلك‭ ‬لتحقيق‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬بمصطلح‭ ‬‮«‬المدن‭ ‬الصحية‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬طالبت‭ ‬به‭ ‬‮«‬المنظمة‭ ‬الصحية‭ ‬العالمية‭ ‬للمدن‭ ‬والقرى‭ ‬الصحية‮»‬‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬مبادرة‭ ‬أطلقتها‭ ‬عام‭ ‬1986،‭ ‬والتي‭ ‬تمثل‭ ‬مفتاحا‭ ‬لمستقبل‭ ‬صحي‭ ‬للعالم‭ ‬أجمع‭. ‬

إن‭ ‬الطريق‭ ‬لهذا‭ ‬المستقبل‭ ‬الصحي‭ ‬الآمن‭ ‬يستلزم‭ ‬توفر‭ ‬القناعة‭ ‬لدى‭ ‬أصحاب‭  ‬القرار‭ ‬بأن‭ ‬الأمن‭ ‬الصحي‭ ‬هو‭ ‬الضمان‭ ‬لتحقيق‭ ‬الأمن‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والاقتصادي‭ ‬والسياسي‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مجتمع،‭ ‬إلي‭ ‬جانب‭ ‬عدم‭ ‬الاكتفاء‭ ‬بجهود‭ ‬وفعاليات‭ ‬يوم‭ ‬واحد‭ ‬سنويا‭ ‬للاحتفال‭ ‬بالامتناع‭ ‬عن‭ ‬التدخين‭ ‬والذي‭ ‬حددته‭ ‬منظمة‭ ‬الصحة‭ ‬العالمية‭ ‬بتاريخ‭ ‬31‭ ‬مايو‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬عام،‭ ‬وإنما‭ ‬يتطلب‭ ‬الأمر‭ ‬مضاعفة‭ ‬خطط‭ ‬وبرامج‭ ‬وأنشطة‭ ‬تعزيز‭ ‬الوعي‭ ‬المجتمعي‭ ‬بالآثار‭ ‬الضارة‭ ‬لتعاطي‭ ‬التبغ،‭ ‬ومواصلة‭ ‬الشراكات‭ ‬المجتمعية‭ ‬لدعم‭ ‬السياسات‭ ‬والإجراءات‭ ‬الفعالة‭ ‬والكفيلة‭ ‬بمكافحة‭ ‬التدخين‭ ‬والحد‭ ‬من‭ ‬استهلاكه،‭ ‬لما‭ ‬يشكله‭ ‬من‭ ‬مضار‭ ‬على‭ ‬الصحة‭ ‬العامة‭ ‬للأفراد‭ ‬وعلى‭ ‬زيادة‭ ‬فرص‭ ‬الإصابة‭ ‬بالأمراض‭ ‬المزمنة‭ ‬ومضاعفاتها،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬فعلته‭ ‬دولة‭ ‬السويد‭ ‬التي‭ ‬تعد‭ ‬الأقل‭ ‬تدخينا‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬واليوم‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬طريقها‭ ‬لأن‭ ‬تصبح‭ ‬خالية‭ ‬من‭ ‬وباء‭ ‬التدخين‭ .‬

يقول‭ ‬المثل‭: ‬

‮«‬إن‭ ‬المنسحبين‭ ‬لا‭ ‬يربحون‭ ‬أبدا‭.. ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬التبغ‭.. ‬فإن‭ ‬المنسحبين‭ ‬أو‭ ‬المقلعين‭ ‬عن‭ ‬التدخين‭ ‬هم‭ ‬الرابحون‭ ‬الحقيقيون‮»‬‭!‬

نعم،‭ ‬فحين‭ ‬يقلع‭ ‬أحدهم‭ ‬عن‭ ‬التدخين،‭ ‬يكون‭ ‬قد‭ ‬سطر‭ ‬لنفسه‭ ‬وبأصابعه‭ ‬التي‭ ‬أحرقتها‭ ‬تلك‭ ‬اللفافات‭ ‬الورقية‭ ‬شهادة‭ ‬ميلاد‭ ‬جديدة‭!‬

إقرأ أيضا لـ"هالة كمال الدين"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا