العدد : ١٧٠٦٩ - الاثنين ١٦ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٦ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٦٩ - الاثنين ١٦ ديسمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ١٦ جمادى الآخر ١٤٤٦هـ

زاوية غائمة

جعفـــــــر عبــــــــاس

jafasid09@hotmail.com

لماذا أكره العودة إلى المدارس (2)

قلت‭ ‬بالأمس‭ ‬وأقولها‭ ‬مجددا‭ ‬إنني‭ ‬كنت‭ ‬أكره‭ ‬المدرسة‭ ‬بصفة‭ ‬عامة‭ ‬وإنني‭ ‬عشت‭ ‬أتعس‭ ‬سنوات‭ ‬مسيرتي‭ ‬المدرسية‭ ‬في‭ ‬المرحلة‭ ‬الابتدائية،‭ ‬وذلك‭ ‬بسبب‭ ‬الضرب‭ ‬المتكرر‭ ‬الذي‭ ‬كنت‭ ‬أتعرض‭ ‬له‭ ‬مصحوبا‭ ‬بإساءات‭ ‬جارحة‭ ‬لوجداني‭ ‬كطفل‭ (‬وإن‭ ‬كان‭ ‬يخفف‭ ‬وقع‭ ‬بعض‭ ‬تلك‭ ‬الإساءات‭ ‬أنني‭ ‬كناطق‭ ‬باللغة‭ ‬النوبية‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أفهم‭ ‬مؤدّاها‭ ‬عندما‭ ‬تأتي‭ ‬بالعربية،‭ ‬ومن‭ ‬بينها‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يقوله‭ ‬لنا‭ ‬مدرس‭: ‬يا‭ ‬أحط‭ ‬من‭ ‬المحطة‭ ‬وأرذل‭ ‬من‭ ‬الرذيل‭ ‬وأحْيَر‭ ‬من‭ ‬سمكة‭ ‬على‭ ‬شاطئ‭ ‬دجلة‭!!)‬

ومن‭ ‬ثم‭ ‬فالعودة‭ ‬إلى‭ ‬المدارس‭ ‬في‭ ‬نظري‭ ‬هي‭ ‬عودة‭ ‬إلى‭ ‬عام‭ ‬كامل‭ ‬من‭ ‬التعاسة،‭ ‬بسبب‭ ‬أن‭ ‬مدارسنا‭ ‬تفتقر‭ ‬إلى‭ ‬البعد‭ ‬التربوي،‭ ‬فالمهم‭ ‬هو‭ ‬الالتزام‭ ‬باللوائح‭ ‬‮«‬التربوية‮»‬،‭ ‬وعلى‭ ‬رأسها‭ ‬الطابور‭ ‬الصباحي‭ ‬اليومي‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬له‭ ‬بالتربية‭ ‬أو‭ ‬البطيخ،‭ ‬ولابد‭ ‬من‭ ‬إكمال‭ ‬المنهج‭ ‬المقرر،‭ ‬في‭ ‬مدى‭ ‬زمني‭ ‬معين،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فإن‭ ‬الطالب‭ ‬يتحول‭ ‬إلى‭ ‬قطعة‭ ‬من‭ ‬الكوسة‭ ‬يتم‭ ‬تجويفها‭ ‬وحشوها‭ ‬بمواد‭ ‬مختلفة‭ ‬غير‭ ‬متجانسة‭ (‬تماما‭ ‬كأكلة‭ ‬المحشي‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬ضرب‭ ‬من‭ ‬الاستهبال‭ ‬يتيح‭ ‬لمن‭ ‬يطبخها‭ ‬إخفاء‭ ‬فشله‭ ‬في‭ ‬جوفها،‭ ‬وتستفزني‭ ‬كثيرا‭ ‬عبارة‭ ‬أن‭ ‬فلانة‭ ‬ماهرة‭ ‬في‭ ‬صنع‭ ‬المحشي،‭ ‬وعبارة‭ ‬‮«‬تغدينا‭ ‬بمحشي‭ ‬يجنن‮»‬‭).‬

وأغرب‭ ‬ما‭ ‬سمعته‭ ‬خلال‭ ‬الأعوام‭ ‬الأخيرة‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬طلاب‭ ‬بعض‭ ‬الجامعات‭ ‬أيضاً‭ ‬يتعرضون‭ ‬للإذلال‭ ‬والإهانة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬بعض‭ ‬المحاضرين،‭ ‬الذين‭ ‬يوزعون‭ ‬ألقابا‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬‮«‬غبي‮»‬‭. ‬‮«‬حمار‮»‬،‭ ‬‮«‬قليل‭ ‬أدب‮»‬‭ ‬على‭ ‬الطلاب،‭ ‬مع‭ ‬أن‭ ‬الطالب‭ ‬لا‭ ‬يجد‭ ‬مقعدا‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يمر‭ ‬بثقب‭ ‬غربال‭ ‬ناعم،‭ ‬أي‭ ‬تصفيات‭ ‬كثيرة‭ ‬مما‭ ‬يعني‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬يصل‭ ‬إلى‭ ‬الجامعة‭ ‬بالضرورة‭ ‬شاب‭ ‬متميز‭ (‬هذا‭ ‬لا‭ ‬يسري‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬يدخلون‭ ‬الجامعة‭ ‬من‭ ‬النوافذ‭ ‬لأنهم‭ ‬‮«‬مسنودون‮»‬،‭ ‬وهذه‭ ‬من‭ ‬عجائب‭ ‬النظام‭ ‬التعليمي‭ ‬العربي‭ ‬فلم‭ ‬أسمع‭ ‬خارج‭ ‬الوطن‭ ‬العربي‭ ‬عن‭ ‬طلاب‭ ‬يدخلون‭ ‬الجامعة‭ ‬وهم‭ ‬غير‭ ‬مستوفين‭ ‬لشروط‭ ‬القبول،‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬جامعات‭ ‬الإنترنت‭ ‬التي‭ ‬تمنح‭ ‬الشهادات‭ ‬بنظام‭ ‬هوم‭ ‬ديليفري‭/ ‬توصيل‭ ‬للمنازل‭ ‬لمن‭ ‬يدفع‭ ‬المعلوم‭!!).‬

ويشكو‭ ‬طلاب‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الاستاذ‭ ‬الفلاني‭ ‬لا‭ ‬يسمح‭ ‬لأي‭ ‬منهم‭ ‬بمقابلته‭.. ‬أو‭ ‬أن‭ ‬زميله‭ ‬الآخر‭ ‬متخصص‭ ‬في‭ ‬ترسيب‭ ‬الطلاب،‭ ‬أي‭ ‬معروف‭ ‬بأن‭ ‬معظم‭ ‬من‭ ‬يجلسون‭ ‬لامتحانات‭ ‬في‭ ‬المادة‭ ‬التي‭ ‬يدرسها،‭ ‬يرسبون‭ ‬فيها‭ ‬بينما‭ ‬قد‭ ‬يحصلون‭ ‬على‭ ‬تقديرات‭ ‬عالية‭ ‬في‭ ‬المواد‭ ‬الأخرى،‭ ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬يؤلمني‭ ‬أكثر‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬طلاباً‭ ‬جامعيين‭ ‬عديدين‭ ‬يشكون‭ ‬من‭ ‬أنهم‭ ‬يتعرضون‭ ‬للإهانات‭ ‬والإساءات‭ ‬اللفظية‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الأساتذة‭.‬

عندما‭ ‬كنا‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬الخرطوم‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬فقط‭ ‬نقابل‭ ‬أساتذتنا‭ ‬في‭ ‬مكاتبهم‭ ‬متى‭ ‬ما‭ ‬رغبنا‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬كثيرون‭ ‬منا‭ ‬يملكون‭ ‬نسخاً‭ ‬من‭ ‬مفاتيح‭ ‬تلك‭ ‬المكاتب‭ ‬ليتسنى‭ ‬لهم‭ ‬استخدامها‭ ‬ليلاً‭ ‬للاستذكار‭ ‬ومراجعة‭ ‬الدروس،‭ ‬وعندما‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬النهائية‭ ‬من‭ ‬المرحلة‭ ‬الثانوية‭ ‬تم‭ ‬فصلي‭ ‬وطردي‭ ‬من‭ ‬المدرسة‭ ‬بسبب‭ ‬نشاطي‭ ‬‮«‬المريب‮»‬‭ ‬ضد‭ ‬حكومة‭ ‬مريبة،‭ ‬وجلست‭ ‬لامتحان‭ ‬الشهادة‭ ‬الثانوية‭ ‬ومعي‭ ‬بعض‭ ‬زملائي‭ ‬المطاريد‭ ‬خارجياً‭ (‬من‭ ‬المنازل‭)‬،‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬تبعد‭ ‬عن‭ ‬مدرستي‭ ‬الأصلية‭ ‬بنحو‭ ‬ثلاثين‭ ‬كيلومتراً،‭ ‬وطوال‭ ‬فترة‭ ‬الامتحانات‭ ‬كان‭ ‬مدرسون‭ ‬من‭ ‬مدرستنا‭ ‬الأصلية‭ ‬يمرون‭ ‬علينا‭ ‬بالتناوب‭ ‬ليراجعوا‭ ‬معنا‭ ‬الدروس‭ ‬ويرفعوا‭ ‬روحنا‭ ‬المعنوية،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬بينهم‭ ‬مدرس‭ ‬لغة‭ ‬إنجليزية‭ ‬اسكتلندي‭ ‬اسمه‭ ‬جون‭ ‬ميلون،‭ ‬وكان‭ ‬يتباهى‭ ‬عادة‭ ‬ببخله،‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬فقد‭ ‬جاءنا‭ ‬قبل‭ ‬أيام‭ ‬من‭ ‬امتحان‭ ‬الأدب‭ ‬الإنجليزي‭ ‬بسيارة‭ ‬أجرة‭ ‬وأمضى‭ ‬معنا‭ ‬زهاء‭ ‬خمس‭ ‬ساعات‭ ‬يشرح‭ ‬الجوانب‭ ‬المستعصية‭ ‬في‭ ‬الكتب‭ ‬الثلاثة‭ ‬المقررة‭ ‬علينا‭.. ‬وحفظت‭ ‬لأساتذتي‭ ‬ذلك‭ ‬الجميل‭ ‬وقمت‭ ‬برده‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬صرت‭ ‬بدوري‭ ‬مدرساً‭ ‬للإنجليزية،‭ ‬ففي‭ ‬الأيام‭ ‬التي‭ ‬تسبق‭ ‬امتحانات‭ ‬الشهادة‭ ‬الثانوية‭ ‬كنت‭ ‬أجمع‭ ‬الطلاب‭ ‬في‭ ‬قاعة‭ ‬ضخمة‭ ‬وأراجع‭ (‬أذاكر‭) ‬معهم‭ ‬الدروس‭ ‬بأسلوب‭ ‬مكثف‭ ‬ثم‭ ‬أطلب‭ ‬منهم‭ ‬أن‭ ‬يعاهدوني‭ ‬على‭ ‬‮«‬النوم‮»‬‭ ‬فور‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬بيوتهم‭. ‬كنت‭ ‬بذلك‭ ‬أوحي‭ ‬لهم‭ ‬بأننا‭ ‬قمنا‭ ‬بالمراجعة‭ ‬اللازمة‭ ‬وأن‭ ‬محاولة‭ ‬مواصلة‭ ‬استذكار‭ ‬ما‭ ‬راجعناه‭ ‬سوياً‭ ‬في‭ ‬البيت،‭ ‬سيسبب‭ ‬لهم‭ ‬التوتر‭ ‬والقلق،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فإن‭ ‬النوم‭ ‬هو‭ ‬الضمان‭ ‬الأفضل‭ ‬لدخول‭ ‬قاعة‭ ‬الامتحان‭ ‬بأعصاب‭ ‬هادئة،‭ ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬كنا‭ ‬خلال‭ ‬مراقبة‭ ‬طلابنا‭ ‬في‭ ‬امتحان‭ ‬الشهادة‭ ‬الثانوية‭ ‬لا‭ ‬نرحم‭ ‬من‭ ‬يبدر‭ ‬عنه‭ ‬تصرف‭ ‬مريب‭ (‬الطلب‭ ‬المتكرر‭ ‬للذهاب‭ ‬إلى‭ ‬الحمام‭ ‬مثلاً‭)‬

والشاهد‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬ليس‭ ‬أن‭ ‬أبا‭ ‬الجعافر‭ ‬كان‭ ‬مدرساً‭ ‬نموذجياً،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬كل‭ ‬زملائي‭ ‬كذلك،‭ ‬ولكن‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬المدرس‭ ‬والطالب‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬‮«‬الحب‮»‬‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬الاحترام،‭ ‬والاحترام‭ ‬حتى‭ ‬للوالدين‭ ‬عندما‭ ‬يكون‭ ‬بسبب‭ ‬الخوف‭ ‬أو‭ ‬تفادياً‭ ‬للعقاب‭ ‬يكون‭ ‬مزيفا‭.‬

إقرأ أيضا لـ"جعفـــــــر عبــــــــاس"

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا