«ركزوا على الأشياء التي لا تعيقكم إصابتكم عن فعلها بشكل جيد، ولا تشعروا بالألم في التخلي عن الأشياء التي تمنعكم الإعاقة عن فعلها، ولا تجعلوا إعاقتكم تمتد إلى أرواحكم كما وصلت إلى أجسادكم»!
تلك كانت نصيحة ستيفن هوكينغ عالم الفيزياء البريطاني الشهير لذوي الاحتياجات الخاصة، وهي لم تكن مجرد تنظيرا أدبيا، فإعاقته لم تحرمه من أن يصبح واحدا من أهم علماء الفيزياء وأكثرهم عبقرية في العقود الأخيرة، وهو ليس المثال الأول ولن يكون الأخير، فهناك الكثيرون من هذه الفئة حققوا الكثير من الإنجازات، وتحولوا إلى أبطال لقصص إنسانية تكتب حروفها من ذهب.
سلمى أحمد العصفور، تلك المرأة الصماء، هي أحد هؤلاء الأبطال التي قالت لنفسها «أذني لا تسمع.. ولكن هنا قلبي يسمع وينظر وبه عزمي» لتؤكد أنه لا توجد إعاقة مع الإرادة، وعلى أن ذوي الهمم هم فئة من الناس لهم طموحاتهم وأحلامهم وأهدافهم مثل سائر البشر، ولا يحبون الهزيمة، ولا نظرات الشفقة، بل هم في كثير من الأحيان أشخاص مميزون، يستطيعون ممارسة حياتهم بشكل طبيعي، ويتمتعون بصفات ومواهب فريدة خصهم الخالق بها.
هي ترى أن الحياة ليست كلها جميلة، ولكن يمكننا التركيز على النواحي الجيدة بها، واستثمارها في صناعة مستقبل ملؤه الأمل والتفاؤل، فدعونا نفتش في مشوارها عن نافذة من النور يهتدي بها كل من ظن أن طريقه سيظل معتما حتى نهايته، وذلك في الحوار التالي:
متى تم اكتشاف الإعاقة؟
عند عمر أربعة أشهر اكتشفت والدتي أنني طفلة غير طبيعية مثل سائر الأطفال، حيث كنت لا أستجيب لأي صوت وكأنني أعيش في عالم آخر بمفردي، وقد أكد لها الأطباء بعد الفحوصات اللازمة أنني صماء، وبالطبع كانت صدمة شديدة بالنسبة لها، إلا أنها سرعان ما تجاوزتها لقناعتها بأن هذه هي إرادة الله ولا يمكن الاعتراض عليها، وعند عمر عامين بلغها أن هناك مدرسة للصم في دولة الكويت، لكنها رفضت أن أعيش بعيدا عنها، وفي عام 1983 تم افتتاح مركز تأهيل الصم بالبحرين، والتحقت به، وكان عمري حينذاك لم يتعد أربع سنوات، وتعلمت هناك لغتي الإشارة والشفاه، ومازلت أتذكر معلمتي فاتن البوسميط التي ساعدتني ودعمتني كثيرا، وواصلت بالمركز حتى عمر 18 عاما.
ثم ماذا؟
بعد أن تركت مركز تأهيل الصم التحقت بمعهد البحرين للتدريب، ودرست تخصص الحاسب الآلي أربع سنوات، ثم تخرجت وعملت بوظيفة مدخلة بيانات بالمعهد ثماني سنوات، عقب ذلك انتقلت إلى العمل بمدرسة حكومية كفني معلومات، بالطبع كان ذلك تحديا كبيرا بالنسبة لي نظرا لصعوبة التواصل مع الآخرين، وخاصة أنني أول حالة من نوعها ضمن الكادر الوظيفي بالمدرسة، ومع الوقت بدأت في التأقلم وترقيت وأصبحت اختصاصي أول.
كيف أكملتِ دراستك حتى المرحلة الثانوية؟
لقد أكملت دراستي بعد الشهادة الإعدادية في التعليم المستمر المسائي، وكنت قد طالبت به أثناء ترؤسي جمعية الصم كأول امرأة بحرينية وخليجية تحتل هذا المنصب، ولله الحمد تخرجت ضمن أول دفعة، وكان ذلك وقت أزمة جائحة كورونا، حيث جمعت بين العمل في الصباح والدراسة في المساء، وكم كنت أتمنى أن ألتحق بالجامعة لمواصلة مشواري التعليمي ولكن خاب أملي في ذلك للأسف الشديد.
ما الصعوبات التي واجهتك في سبيل تحقيق الأمنية؟
دفعني حلم إكمال تعليمي الجامعي إلى طرق الكثير من الأبواب لتحقيقه، ولكن كل محاولاتي باءت بالفشل، حتى بالجامعات الخاصة نظرا لعدم إتقاني اللغة الإنجليزية، وللأسف لا يوجد تخصصات للصم بجامعتنا الوطنية، وكم تمنيت دراسة تخصص الحاسوب وهو حلم سيظل يراودني طوال العمر، ولن أتوقف عن محاولة تحقيقه.
أصعب مرحلة مرت بك؟
لا شك أن طفولتي كانت من أصعب المراحل وخاصة ما بين اكتشاف الإعاقة والتأقلم عليها والتعايش معها ونجاحي في التواصل مع الآخرين من حولي ومنهم أسرتي التي تضم عشرة من الإخوة والأخوات، علما بأنني الابنة الثانية لوالدي، فكم كنت أتألم كثيرا حين يتحدثون أمامي وأجد نفسي عاجزة عن فهم ما يقولون، فقد عشت في هذا العالم الصامت فترة صعبة، إلى أن تعلمت لغتي الشفاه والإشارة في مركز التأهيل، ولن أنسى فضل أختي إيمان وهي الأقرب لي وكذلك صديقتي المقربة منى فخر في دعمي ومساندتي طوال مشواري، فقد كانتا دوما مصدر قوة لي، ويجمعني بهما الكثير من التوافق الفكري، وأذكر أنني حين بدأت أفهم لغة الشفاه لأول مرة بكت والدتي من شدة الفرحة، وكان عمري حينها حوالي عشر سنوات.
هل مرت بك لحظات من اليأس؟
بالطبع مررت بلحظات مؤلمة من اليأس والإحباط، ولكني إنسانة قوية، ومصدر هذه القوة والداي، فقد زرعا بداخلي الصلابة والقدرة على مواجهة أي تحدٍ منذ صغري، حتى أصبحت على قناعة بأن إعاقتي هي مكمن إرادتي وعزيمتي، وبأنني لست ناقصة، بل المعاق الحقيقي هو الذي يرانا معاقين ويتعامل معنا على هذا الأساس، فالإعاقة في رأيي ليست في الجسد بل في الفكر، ولا شك أن زوجي وأبنائي كان لهم الفضل الكبير في تخطي أي صعوبات أو عثرات واجهتني عبر مشواري.
تجارب مؤلمة لا تنسى؟
من أهم المواقف الصعبة بل والمؤلمة التي واجهتني هو عدم تفهم البعض لظروفي في بعض الأحيان، الأمر الذي يسبب لي ضغوطا نفسية قاسية، وخاصة اذا تعلق الأمر بعدم الثقة في قدراتي واستبعاد بعض المهام عني نتيجة التشكك في إمكانية الإيفاء بها، ولكني اعتدت وتكيفت مع ذلك إلى حد كبير، ولم أعد أتوقف كثيرا عند هذه الأمور، ومن الأشياء الأخرى التي تشعرني أحيانا بالحرج بعض الشيء هو رفع نبرة صوتي عند الحديث نظرا لعدم سماعي لها، وخجلي من ردود فعل من حولي.
نقطة ضعفك؟
نقطة ضعفي بناتي، ولله الحمد استطعت رغم حالتي إقامة علاقة من الصداقة فيما بيننا، وهن يكن لي ولوالدهن كل التقدير والاحترام، وقد علمتهن منذ نعومة أظافرهن أن الترابط العائلي أهم شيء في الحياة، فلولا دعم أسرتي وأهلي لما وصلت إلى ما أنا عليه اليوم.
حدثينا عن تجربة زواجك؟
لقد كنت رافضة الزواج من إنسان طبيعي، في حين لا أمانع إذا كان أصم مثلي وحدث بالفعل أنني قابلت هذا الشخص الذي فقد السمع عند عمر عشر سنوات في مركز التأهيل، وكان قادرا على النطق بدرجة تفوق فيها عليّ، وقررنا الزواج رغم تحفظ والدي في البداية تخوفا من عدم قدرتنا على التعامل مع أبنائنا مستقبلا، ولكني أقنعته وتمت خطبتي عند عمر 22 عاما، وبعد انجاب طفلتي الأولى واصلت مشواري العملي، ولله الحمد يمكن القول بأن تجربة زواجي من شخص أصم مثلي ناجحة بكل المقاييس، وأن هناك تفاهما وتقاربا شديدا فيما بيننا في كل شيء، الأمر الذي أدهش الكثيرين وأولهم والدي.
وماذا عن تعاملكما مع الأبناء؟
يمكن القول بأننا لم نواجه أي مشكلة عند التعامل مع بناتنا الثلاث، ففي البداية كنا نعتمد على حاسة التلامس فيما بيننا، ثم ظهرت بعد ذلك بعض الوسائل التكنولوجية البسيطة التي سهلت علينا الأمر كربط الجرس بالإضاءة وغيرها، وقد حرصنا على تعليمهن الاعتماد على النفس ولغة الإشارة منذ صغرهن، وكم هن فخورات بنا ويتحدثن عنا بكل اعتزاز وتقدير.
أهم الإنجازات من خلال ترؤسك جمعية الصم؟
لا يفوتني هنا أن أتوجه بالشكر الجزيل للقائمين على المجلس الأعلى للمرأة لتعاونهم وتواصلهم الدائم معنا من خلال الجمعية، الأمر الذي ساعدنا على تحقيق الكثير من الإنجازات، منها على سبيل المثال لا الحصر المشاركة في العديد من الفعاليات والأنشطة، ولعل أهم انجاز أثناء ترؤسي جمعية الصم هو مطالبتي بالتعليم المستمر المسائي لهذه الفئة، وكم كنت سعيدة وفخورة بالاستجابة لي، وقد تخرجت ضمن أول دفعة عام 2021 ومازلت عضوة بالجمعية.
درس علمتك إياه الحياة؟
علمتني الحياة الإيجابية وعدم الاستسلام، وتلك هي رسالتي للصم، لذلك سأظل أسعى لتحقيق حلم إكمال تعليمي الجامعي ولن أيأس، أملا في الحصول على وظيفة براتب أفضل لمواصلة طريقي بنوع من الراحة والأمان.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك